أ.خالد نضال إبراهيم

تمر سوريا اليوم بمنعطف تاريخي حاسم، تتشابك فيه إرهاصات التغيير السياسي مع تعقيدات الواقع الأمني والاقتصادي.

 ففي أعقاب الانتخابات البرلمانية الأخيرة (سبتمبر 2025)، التي جاءت كأول استحقاق ديمقراطي بعد تغيّر النظام، بدأت ملامح إعادة تفعيل مؤسسات الدولة والمجتمع المدني تتشكل وسط آمال متزايدة بإرساء قواعد جديدة للحكم والمشاركة.

لكن هذا التحول السياسي لا ينفصل عن تحديات أمنية متجددة، كان آخرها التفجير الذي استهدف حافلة تابعة لوزارة الدفاع في شرقي البلاد، ما يعكس استمرار هشاشة الوضع الأمني.

 وعلى الصعيد الاقتصادي، تتفاقم الأزمة الغذائية وترتفع معدلات البطالة، لتشكّل ضغطًا يوميًا على الأسرة السورية، وتُبرز الحاجة الملحّة إلى استقرار مجتمعي لم يعد ترفًا بل شرطًا للبقاء.

في ظل هذا المشهد المركّب، تبرز ضرورة بناء وعي مجتمعي جديد يعيد تعريف العلاقة بين المواطن، والمؤسسة، والوطن، ويؤسس لمرحلة يكون فيها الانتماء فعلًا واعيًا، والمشاركة مسؤولية جماعية.

١. العلاقة بين المجتمع والدولة: من التلقي إلى الشراكة

إن الدولة التي تنشد الاستقرار الحقيقي لا يمكن أن تبني مؤسساتها على علاقة سطحية أو أحادية الاتجاه مع المجتمع.

فالتعويل لا يكون على مجتمع غير واعٍ، بل على مجتمع مدرك، قادر على الفهم والمساءلة والمشاركة.

وعلى الدولة أن تعيد بناء علاقتها مع هذا المجتمع الواعي، لا باعتباره تابعًا أو متلقيًا، بل شريكًا في صياغة المستقبل، ومساهمًا في رسم السياسات وصناعة القرار.

فحين يشعر المواطن أن الدولة لا تحمي حقوقه أو لا تستجيب لحاجاته، تتسع الفجوة وتضعف الثقة، وتتحول المؤسسات إلى هياكل فارغة من المعنى.

المطلوب اليوم هو إعادة تعريف هذه العلاقة، بحيث تكون الدولة ضامنًا للعدالة لا خصمًا في الصراع، والمواطن شريكًا في البناء لا متلقيًا للقرارات.

وفي هذا الإطار، تبرز أولويات المرحلة كالتالي:

• تعزيز ثقافة احترام القانون كإطار يحمي الجميع، لا كقيد مفروض من الأعلى.

• دعم المجتمع المدني ليكون فاعلًا في اقتراح الحلول، لا مجرد محتجّ على النتائج.

• بناء مؤسسات شفافة تستبعد من تورّطوا في انتهاكات، كما أوصى تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، مما يعزز الثقة ويحفّز المشاركة.

2. الوعي الوطني: من الشعار إلى الممارسة

الوعي الوطني لا يُقاس بالكلمات، بل بالأفعال اليومية:

• المواطن الذي يقدّر المصلحة العامة ويشارك في حماية الحيّ والمدرسة والمستشفى.

• المجتمع الذي يفهم أن العودة إلى الحياة الطبيعية تعني إعادة بناء الثقة والقيم المشتركة.

• المؤسسات التي تستجيب لشكاوى الناس، وتُشركهم في القرار المحلي، حتى على مستوى الحي.

مثال واقعي: عندما تقع هجمات في مناطق كانت تُعتبر آمنة، فإن الردّ لا يكون فقط أمنيًا، بل مجتمعيًا: “نحن مجتمعٌ واحد، وسنصمد معًا”.

3. توصيات عملية لتعزيز الدور المجتمعي

لكي تتحول العلاقة بين المواطن والدولة من التلقي إلى الشراكة، لا بد من ترجمة هذه الرؤية إلى سياسات عملية تتغلغل في مفاصل الحياة اليومية، وتعيد بناء الثقة من الأساس.

 وفي هذا الإطار، تبرز مجموعة من المسارات الحيوية التي تشكّل حجر الأساس لأي مشروع إصلاحي جاد:

1. في التعليم:

إدماج مفاهيم المواطنة، الثقة بالمؤسسات، والمشاركة الفاعلة ضمن المناهج الدراسية، بما يرسّخ لدى الأجيال القادمة وعيًا نقديًا ومسؤولية مدنية، ويؤسس لعلاقة صحية بين الفرد والمؤسسة منذ المراحل الأولى للتنشئة.

2. في الاقتصاد المحلي:

تفعيل دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وتوسيع فرص العمل للشباب، بما يعيد الاعتبار للجدوى الاقتصادية للإصلاح، ويمنح المواطن شعورًا ملموسًا بأن الدولة تستثمر في طاقاته لا تهمّشه.

3. في الإعلام:

تحفيز الإعلام المحلي على إبراز قصص النجاح، وتسليط الضوء على المبادرات المجتمعية ونماذج الشراكة بين المواطن والمؤسسة، بما يعيد تشكيل الصورة الذهنية للدولة كممكنة لا معطّلة، ويعزز ثقافة الأمل والاقتداء.

4. في المبادرات المجتمعية:

تمكين لجان الأحياء والجمعيات التطوعية، وتوفير فضاءات حوار آمنة للشباب، بما يفتح المجال أمام التعبير والمبادرة، ويحوّل المجتمع من متلقٍ إلى منتج للحلول.

5. في الأداء المؤسسي:

إرساء آليات لرصد الخدمات العامة، وقياس مدى استجابتها لاحتياجات المواطنين، مع نشر تقارير شفافة حول الميزانيات والإنجازات، بما يعزز المساءلة ويكرّس ثقافة الإدارة الرشيدة.

6. في إشراك الفئات الفاعلة:

منح المرأة والشباب دورًا حقيقيًا في صنع القرار، لا رمزيًا أو شكليًا، بما يضمن تمثيلًا عادلًا ويستثمر في الطاقات المجتمعية الأكثر ديناميكية وتأثيرًا.

4. خاتمة:

إعادة بناء سورية ليست فقط في البنية التحتية، بل في إعادة بناء الثقة والانتماء.

المواطن ليس مراقبًا، بل جزء من العملية.

 والدولة، كلما أحسنت الاستجابة، وجدت مجتمعًا مستعدًا للمشاركة.

عندما يتحقق هذا التوازن، يصبح الإصلاح حقيقيًا، والمجتمع قادرًا على قيادة نفسه نحو مستقبل أفضل.

سورية اليوم أمام فرصة حضارية لتأسيس عقد جديد بين المواطن والدولة، قائم على المشاركة اليومية، والوعي المتصاعد، والعمل المشترك.

 فلنُحوّل هذا الوعي إلى ممارسة تُعاش، لا شعار يُرفع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *