الجزء الثاني
أ.منة الله نصر حماقي
مرّت سنتان على وفاة العجوز، وخلالهما قررت أن أستمر في العيش في الجبل، فهو ملجئي الوحيد..
كنت أخرج إلى المدينة أحيانًا، وتأقلمت مع طريقتهم في التعامل.
ولا أنكر أنني اكتسبت بعض الصفات السيئة منهم….
كنت أحاول ألّا أفتعل المشاكل، وأبتعد قدر المستطاع، كي لا أنخرط في عالمهم أكثر من ذلك…
في أحد أحياء المدينة، كان هناك مقهى صغير…
هادئ، مسالم، لا تحدث فيه اعتداءات كما في باقي الأماكن.
اعتدت أن أذهب هناك كل صباح لأستمتع بفنجان قهوتي…
وهناك، تعرّفت عليها.
كانت تُسمى نور.
عيناها عسليتان، فيهما دفء غريب، كأنك تغرق في شمس هادئة آخر النهار.
شعرها أسود مموج، ينسدل بحرية على كتفيها، لا تُحاول أن تُظهر جمالها… لكن جمالها كان يصرّ أن يُظهر نفسه.
كان فيها شيء مختلف.
جمال طبيعي، وروح نقية… لم تتخلَّ عن فطرتها السليمة تمامًا، رغم أن كل ما حولها كان يدفعها للسقوط.
كنت أُحادثها كثيرًا.
نخوض معًا نقاشات طويلة عن هذا المجتمع الغريب،
تارةً تتفق معي، وتارةً تعارضني، وكنت أنا كذلك.
لكننا كنّا نفهم بعضنا، حتى في الخلاف.
مرت الأيام على هذا الحال…
وللقلب أحكامه.
ابتسامتها كانت تأسرني… هادئة، صادقة، بدون تكلُّف.
أحببتها.
أحببتها في عالم لا يعرف الحب.
وحين صارحتها بمشاعري، ابتسمت لي بنفس الصدق.
كانت تُبادلني الشعور.
لكن الظروف…
اللعنة على الظروف.
لم تُبادلنا نفس الشعور.
ففرّقتنا.
ذهبتُ إلى المقهى كعادتي، لكنها لم تكن هناك.
سألتُ صاحب المقهى عنها، فقال إنها لم تأتِ اليوم.
تملكني القلق، فقررت أن أذهب إلى منزلها للاطمئنان عليها.
طرقت الباب عدة مرات، لكن لم يُجِب أحد.
بدأ القلق يتسلل إلى صدري مع كل نفس أتنفسه،
فقررت أن أفتح الباب وأدخل.
كان المنزل مبعثرًا، فوضويًّا، كأن أحدًا قد اقتحمه بعنف،
وهذا لم يكن مستبعدًا في عالم كهذا.
نظرتُ في كل الأرجاء، حتى وجدتها.
كانت ملقاة على الأرض، وحولها بركة من الدماء.
طُعنت عدة طعنات… حتى فارقت الحياة.
في تلك اللحظة، فقدت القدرة على السيطرة على غضبي.
انتابني الحزن… والغضب.
وما أبشع أن يجتمعا معًا.
فحينها، لا تعود إنسانًا.
لا، لا تصبح إنسانًا.
تتحول إلى شيء آخر…
إلى وحش.
لهذا، إن شعرت يومًا بذلك…
فاهرب.
لقد جُنّ جنوني…
آسف يا معلّمي.
آسف أيها العجوز، الذي لم أعرف اسمه يومًا.
لقد تخليت عن مبادئي.
خرجتُ من الشقة بلا هدف،
أجول في الأرجاء، لا أعلم إلى أين أتجه..
لا أعلم من أنا، أو أين أنا،
فقد فقدتُ عقلي تمامًا.
ظللت على هذا الحال أسبوعًا كاملًا:
لا آكل، لا أشرب، لا أنام.
ولم أعد إلى الجبل مرةً أخرى.
بدأتُ أقتل.
أقتل من يكرهني… من يُغضبني… من يُشعل النار داخلي.
ومع الوقت، لم أعد أُفرّق.
صرت أقتل كل من أراه.
انتشر الخوف، فاختبأ الجميع خلف جدرانهم،
يرتجفون من اسمي،
يرتعدون من مروري،
يتمنون ألا أقف أمام أبوابهم ذات ليلة.
وقفتُ في منتصف الطريق، وصرخت بأعلى صوتي:
“لماذا أنتم خائفون؟! أخبروني!”
ألم يكن هذا مبدأكم؟
ألم تعيشوا هكذا؟
في وسط هذا الفساد؟
بهذه القلوب المتعفنة؟
ألم تصفقوا للظالم، وتضحكوا على دموع المظلوم؟
لماذا الآن ترتعدون؟ لماذا لا يواجهني أحد؟!
أنا أعلم أنكم تسمعونني جيدًا…
لكنكم كالعادة… تختبئون.
كان هو مجرد شرارة لبداية جديدة.
بدأ الجميع يُفكّر داخل عقولهم، وبين أنفسهم:
نعم… لماذا نخاف الآن من مبادئنا؟
لماذا نهرب من أنفسنا وصفاتنا؟
ألم يكن الحال هكذا دائمًا؟
وبدأوا جميعًا يُفكرون في أفعالهم،
لكن الأوان قد فات.
وقررت الطبيعة،
وقرر الكون،
وقررت السماء والأرض،
أن يتحدوا جميعًا في آنٍ واحد،
لمعاقبة هؤلاء البشر.
بدأت الزلازل، والبراكين تشتعل من باطن الأرض،
وانطلقت الرعود، والبرق، والأمطار الغزيرة من السماء.
بدأت الحيوانات تهيج، تنهش في لحم كل بشري تقابله.
هرب آدم بعيدًا، يركض بلا اتجاه، حتى وصل إلى مكانٍ لا يوجد فيه إلا الأشجار.
ظنَّ أنه قد نجا…
لكن الأشجار تكلمت.
تكلمت بصوت كل ضحية قُتلت بسبب غضبه وكرهه.
وضع يديه على أُذنيه، وبدأ يئن من الألم.
ركض كالمطارد، لا يدري إلى أين، حتى وقع في حفرة امتلأت بالثعابين.
لدغة تلو الأخرى…
حتى فارقت روحه جسده.
في الجانب الآخر من العالم،
كان هناك أربعة أطفال صغار، لم يتجاوز عمرهم عدة أشهر؛ صبيان وفتاتان.
وبعد انتهاء ذلك العقاب الإلهي، امتلأ العالم بالجثث،
لكن سرعان ما ابتلعتها الأرض، وسرعان ما أشرقت السماء بنور ربها.
لقد انتهى كل شيء.
لم يبقَ أحد… سوى أولئك الأطفال الأربعة.
شاءت الأقدار أن يعيشوا.
وحينها، تدخّلت النجوم، وتشكلت بهيئة بشرية،
وقامت بتربيتهم على الفطرة، تربيةً سليمةً نقية.
وبدأ البشر يتكاثرون من جديد…
حتى أصبح العالم كما نراه الآن.
بعيدًا جدًا في السماء المليئة بالنجوم،
قالت نجمة صغيرة لأمها:
هل انتهت الحكاية يا أمي؟
ردت الأم بابتسامة هادئة:
-نعم، انتهت.
سألت النجمة الصغيرة بفضول:
-ولكن… هل اختفت كل الصفات السيئة؟ هل انتهى الشر؟
قالت الأم:
-لا، لم يختفِ.
لكنه ترك أثره في قلوب البشر.
والفرق الوحيد الآن..
أن هناك من يتحكم في تلك الصفات،
وهناك من يترك لها العنان.
قالت النجمة الصغيرة ببراءة:
-هممم… لم أفهم
ضحكت الأم برقة:
-انظري إليهم جيدًا يا صغيرتي،
وحينها فقط… ستفهمين ما أقصده.