الجزء الأول

أ.منة الله نصر حماقي

في ظل كل هذا القبح، كان هناك رجل عجوز لم يستسلم لخوفه، وأبى أن يكون سجينًا في هذا العالم

بل أحبّ ألّا يتخلّى عن إنسانيّته أو مبادئه، وفضّل أن يكون سجينًا داخل عقله

عاش بعيدًا عن الناس، فوق جبل بعيد عن المدينة

أحبّ العزلة ورفض أن يتخلى عن مبادئه

وبالطبع رفضه الجميع، ولقّبوه بـالمجنون الأحمق، وكانوا ينتظرون كلّ فرصة ليقتلوه.

في ليلة شتوية باردة، كان المطر يهطل وكأنّ السماء قد خرجت عن صمتها، وبدأت بإظهار حزنها وبكت

تخلّت إحدى الأمهات في هذه الليلة عن طفلها، كما هو معتاد، ولكنّها تخلّت عنه بالقرب من الجبل الذي يسكنه العجوز

بدأ الطفل بالبكاء بشدة، ولكن صوت المطر قد تغلّب على صوت بكائه، ولولا قوة سمع هذا العجوزحيث كان يدرب حواسه لكي يستطيع النجاة إذا أغار عليه أحد في هذا العالم المليء بالخوف لما كان لينتبه للطفل….

سَمِع العجوز بكاء الطفل، ثم نظر إليه باستنكار وأسف وحمله بين يديه، وأخذ يُحدث نفسه بصوت يكاد يكون مسموعًا وهو يصعد الجبل

طفل آخر تركته أمّه

سكت قليلًا، وكأن فكرة قد زارت عقله لتوّها، ثم أكمل قائلًا:

 “إذن، سأقوم بتربيته على المنهج الصحيح، بعيدًا عن هؤلاء الهمج

لعله يكون شرارة أمل في هذا العالم الكئيب”

قام العجوز بتربية الطفل على الفطرة والأخلاق السليمة، وأطلق عليه اسمآدم

وعندما بلغ آدم سن العشرين، لم يكن مسموحًا له من قبل أن يتخطى حدود الجبل.

وكل مرة كان يسأل فيها عن السبب، يخبره العجوز أن ذلك من أجل مصلحته…

لكن الحال لم يستمر على هذا النحو إلى الأبد، فقد تغلّب الفضول على آدم،

وقرر أن يرى بنفسه ما يوجد خلف الجبل، مخترقًا القاعدة الوحيدة التي وضعها العجوز

وفي أحد الأيام، قرّر العجوز أن يذهب إلى المدينة ليشتري بعض الأشياء، فاستغلّ آدم هذه الفرصة، وقرّر الخروج

بدأ آدم السير باتجاه المدينة، فرأى مجموعة من الشباب يقفون في أحد الشوارع الجانبية، يتسامرون

كان في فم أحدهم لفافة من الورق ينبعث منها دخان.

تساءل آدم في نفسه عن هذا الشيء الغريب، لأنه لم يرَ مثله قط،

وقرر الاقتراب منهم ليسألهم:

آدم: هل أنتم أصدقاء؟ وما هذا الشيء الذي تضعه في فمك؟

الشاب بسخرية: هل أنت معتوه؟

آدم باستغراب: معتوه؟ما معنى هذا؟

الشاب: أعتقد أنك ستفهم إن فعلتُ ذلك

وبدأ الشاب في ضرب آدم، الذي لم يفهم ما الذي يحدث له

ثم تدخل الآخرون، وبدأوا جميعًا بضربه دون رحمة

الشاب: هل قلت إننا أصدقاء؟ لا، لا يوجد هنا مثل هذه العلاقات الشريفة.. نحن فقط نُسلّي بعضنا البعض،

وأنتكنت مجرد وسيلة تسلية لنا. والآن انتهت.

تركه الشاب أرضًا في حالة يُرثى لها، لكن عقل آدم المليء بالأسئلة لم يترك له الفرصة ليظل هكذا

انخدع مرّة أخرى بالفضول، فقام ليُكمل جولته في هذه المدينة الغريبة

وفي تلك اللحظة، عاد العجوز إلى البيت، وبدأ يبحث عن آدم، لكنه لم يجده..

فزع العجوز حين أدرك أن آدم قد غادر العُش، وأنه لم يكن قد حسب حساب هذه اللحظة

استمر آدم في التجوال داخل المدينة، وعلامات التعجب والاستفهام لم تفارق عينيه

مرّ على مبنى كُتب عليه: “محكمة الظلم” وسمع شتائم في كل مكان حتى ظنّ أنها مجاملات

رأى الكثير من الناس يخدعون، وينصبون، ويحتالون اقشعر بدنه مما رأى، وقرر العودة إلى الجبل،

على أمل أن يجد إجابة لتساؤلاته هناك… في الجبل، بعدما فقد العجوز هدوءه المعتاد، وسيطر عليه القلق، واقتحمت عقله الأفكار، وفي أقصى مراحل توتره، دفع باب المنزل بقوة، ودخل عليه بعض الرجال، الذين عرفهم فورًا؛ أنتم شرطة هذا العالم الفاسد،

ماذا تريدون؟ قال العجوز:

الشرطي: أنت متهم بالعديد من الجرائم، ويجب أن تُحاسب عليها لكي لا تؤثر على عقول الأطفال.

العجوز بسخرية: جرائم؟ وأثر على عقول الأطفال؟

الشرطي: ابدأوا بالبحث عن الطفل.

العجوز: طفل؟ إنه في العشرين من عمره الآن.

الشرطي: إذن تعرفه! سأعتبر هذا دليلًا على كلامي.

العجوز: افعل ما شئت

لم نجده، قال شرطي آخر

الشرطي: أين هو أيها المجنون؟

العجوز: لا أعلم

اقترب الشرطي من العجوز وهو يحمل عصًا خشبية، وبدأ بضربه وهو يقول:

أين هو؟! وإلا دفنتك حيًّا.

العجوز: لقد أخبرتك بالصدق، أنا بالفعل لا أعلم.

الشرطي: الصدق؟ يا للانحطاط! سأعود مرة أخرى لأستعيده، وعندها لن تبقى على قيد الحياة

خرجت الشرطة وتركت العجوز في حالة يُرثى لها، كان يتأوه من الألم، فقد بلغ من الكبر عِتيًّا

صعد آدم الجبل، وعند رؤيته لأشخاصٍ غريبين لم يتعرف على ملامحهم بسبب ظلام الليل، قرر الاختباء خلف أحد الأحجار الكبيرة.

وعندما تأكد من ذهابهم، هرول مسرعًا ليرى ماذا حدث…

عند وصوله للبيت، رأى الباب مفتوحًا على مصراعيه، فانتابه القلق للحظات، ولكن قلقه تحوّل إلى رعبٍ شديد عندما رأى العجوز مُلقى على الأرض، يصارع بين الحياة والموت…

ذهب إليه مسرعًا، ورفع رأسه ليضعه على كتفه، وبدأت الدموع تتجمع في مقلتيه، وقال بصوت مبحوح

ما الذي حدث لك؟

رد العجوز بصعوبة: لا يهمأين كنت يا بُني؟

آدم: آسف، لقد كنت في المدينة

العجوز: إذن، علمت…

آدم: علمت ماذا؟

العجوز: استمع لي جيدًا يا بُنيلا تتخلَّ عن مبادئك أبدًا

بدأ العجوز يسعل، ثم طلب من آدم أن يجلب له كأسًا من الماء

وضع آدم رأسه برفق ليستند على أحد الكراسي، ثم ذهب لإحضار الماء

عاد آدم بعد بضع لحظات، ليُشرِب العجوز الماء، لكنه اكتشف أنه قد فارق الحياة

توقّف قلبي للحظة، وانهمرت الدموع من عينيّ…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *