أ.طارق سليمان


عندما أطلقوا على الشعب المصري لقب ” ابن نكتة ” كان القصد أن هذا الشعب العظيم الموغل في القدم التي تسبق حضارته التاريخ.. يستطيع اجتياز محنه وأزماته بالسخرية منها.. وكانت النكتة أو “المزحة” أو “السخرية” سلاح ماض في يد المصريين في أحلك الأوقات عندما عز عليهم السلاح.. يسخر فيه المصري من طغاته على مر التاريخ.. يسخر ممن احتلوا أرضه.. يسخر من نفسه عندما يشعر أنه لم يكن على قدر الحدث ..
وعلى مدار تاريخ مصر الطويل المئات، بل الآلاف من الظرفاء العظام.. الذين رسموا البهجة والبسمة على ملامح الشعب المصري التي شكلتها قسوة الظروف والأحداث الجسام التي مر بها هذا الشعب ..
ولكني هنا سأستدعي من التاريخ من استخدم لباقته وظرفه
في استحداث النكتة لاستنهاض الهمم وشحذ الأفكار ونشر الوعي لتعود مصر إلى الثورة..

عبد الله النديم هو خطيب الثورة العرابية عام 1882.. وهو أيضا شاعرها.. انطبعت في خطبه وقصائده روح الوطنية المتدفقة..

ولد سنة 1845 بالإسكندرية وبدت عليه منذ صباه مخايل الذكاء اللامع.. وظهرت مواهبه في الترسل في الكتابة والشعر والزجل والقدرة الخطابية.. مع خفة في الروح وميل إلى الفكاهة وجرأة وإقدام واستخفاف بأحداث الزمان ..
ولما اندلعت الثورة العرابية أوائل 1881 انضم إليها بطبعه إذ كانت نفسه تتأجج وطنية وتتطلع إلى الحرية والمجد وتجلت مواهبه الخطابية فصار خطيب الثورة العرابية وأديبها..
ولما شبت الحرب العرابية لازم النديم عرابي في كفر الدوار ثم في التل الكبير وكانت مجلته «الطائف» تصدر في معسكر الجيش المصري..

وبعد أن وقعت الهزيمة ظل مخلصا للثورة في محنتها فبرهن على وفاء نادر ووطنية أصيلة عميقة وكان ممن أمرت الحكومة الموالية للاحتلال الإنجليزي باعتقالهم، ولكنها عجزت عن التعرف إلى مقره والقبض عليه لأنه كان من الشعب وابن الشعب يرتدي زيهم ويقول كلامهم.. وظل مختفيا عن عيونها وجواسيسها نحو تسعة أعوام.. وأعيا الحكومةَ أمره.. وجعلت مكافأة ألف جنيه لمن يرشد عنه، ولكنها لم تهتد إليه..

وقد وصف ما لقيه من الشدائد أثناء اختفائه في قصيدة تفيض وطنية وإيمانا وفخرا وشجاعة وهي من غرر قصائده
 قال فيها:

أتحسبنا إذا قلنا بُلينا بَلينا أو يروم القلب لِينا.. نعم للمجد نقتحم الدواهي فيحسب خامل أنَّا دُهينا

تُناوِشنا فتقهرنا خطوبٌ ترى ليث العرين لها قرينا.. سواءٌ حربها والسِّلم إنا أناس قبل هدنتها هُدينا
إلى أن قال:

إذا ما الدهر صافانا مرِضنا فإن عُدنا إلى خَطبٍ شُفينا.. لنا جِلد على جَلد يقينا   فإن زاد البلا زِدنا يقينا

ألِفنا كل مكروه تُفدَّى له فرسانه بالراجلينا.. فأعيا الخَطبَ ما يلقاه منا، ولكنا صحاح ما عيينا

وإنك لترى هذا الشعر أقوى في الروح والأسلوب من شعره إبان الثورة.. وهكذا يبدو أن الهزيمة لم تنل منه، بل زادته قوة، وحيوية، وصلابة، وبلاغة ..
 وأن الشدائد صقلت مواهبه كما تصقل المعادن وتجلى جوهرها في لهب النار ..
 فاحتفظ النديم في سني المحنة بما حباه الله من إيمان صادق وعزم ثابت وصمود على الأيام وكذلك الشدائد والمحن يختلف أثرها في نفوس الناس.. فبينما تبعث اليأس والجزع في النفوس الضعيفة نراها على العكس تزيد النفوس الكبيرة ثباتا وصبرا وشجاعة وإيمانا ومن هنا جاء شعر النديم بعد هزيمة الثورة أقوى منه في أوج انتصارها
..

وفي الحق أن النديم هو الزعيم الوحيد بين الزعماء العرابيين الذي استمر في جهاده ضد الإنجليز ونضاله عن مصر في عهد الاحتلال.. وتلك لعمري ميزة كبرى جديرة بأن تحيط اسمه بهالة من المجد والخلود وقد اهتدت الحكومة إلى مكانه سنة 1891 وقررت نفيه إلى خارج القطر وفي أوائل عهد الخديوي عباس الثاني عفا عنه ورخص له بالعودة إلى مصر.. فعاد إليها وأنشأ مجلة «الأستاذ» سنة 1892، فتجلت فيها روحه الوطنية التي لم تضعفها الهزيمة ولم تنل منها الشدائد مما أوجد عليه الإنجليز وصنائعهم من المتعاونين معهم فنفوه مرة ثانية إلى الأستانة.. فقال:

ما خلقت الرجال إلا لمصابرة الأهوال ومصادمة النوائب والعاقل يتلذذ بما يراه في فصول تاريخه من العظمة والجلال وإن كان المبدأ صعوبة وكدرا في أعين الواقفين عند الظواهر وعلى هذا فإني أودع إخواني قائلًا:

أُودعكم والله يعلم أنني أحب لقاكم والخلود إليكم

وما عن قلى كان الرحيل وإنما دواع تبدت فالسلام عليكم

وانتهى به المطاف في منفاه إلى الآستانة حيث تُوفي سنة 1896 وشيِعت جنازته في احتفال مهيب مشى فيه كثير من العلماء وأعالي القوم يتقدمهم السيد جمال الدين الأفغاني، ودفن هناك.
وقيل في ذلك:

بالأمس كان غريبا في ديارهم واليوم صار غريب اللحد والكفنِ!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *