أ. روضة محمد
استوقفتني امرأةٌ غريبةٌ، وأنا في طريقي إلى المدرسة، تبدو عليها ملامح البداوة، يداها منمّقتان بوشمٍ غريبٍ وأساورَ كثيرةٍ مزركشة، ووجه كثيرةٌ تجاعيدُهُ، في البداية خفتُ منها، لكنَّ الفضولَ دفعني نحوها. أَمسكَتْ يدي وشدّتْها إليها بقوةٍ، وبدأتْ تنظرُ في راحةِ كفي باستغرابٍ، انتابني الخوف والقلق من نظراتها، ثم تنهدتْ وقالت بصوتٍ مبحوحٍ خشن:
“لا مكانَ للأحلامِ والآمالِ في هذا الحيّ، أنتِ أكثرُهنَّ حظًّا وأطولهنَّ عمرًا، فالنساءُ هنا يمتْنَ باكرًا، أعمارهنّ كأعمارِ الزّهور يا بُنيّتي، ساحراتٌ، جميلاتٌ لكن ضعيفاتٌ، إذ لا أذكرُ امرأةً، ولا شجرةً، ولا حتى فراشةً عمّرت طويلًا فيه، ستموتُ إنْ لم يكن باللعنة، ستموت كمدًا كأمكِ”
-أمّي؟!
-لكنْ أمّي لم تمُتْ.
-وهل تعرفين أمي؟!
سألتُها باستغرابٍ
“صمتَتْ، ثُم وضعتْ بيدي بذرةً صغيرةً….
وقبضتْ يدَها بيدي، وقالت: اهتمي بها واسقيها كلّ يومٍ، حدثيها، وإيّاك والإهمال، فهي بالحبِّ والاهتمام تكبر، فأنتِ السبيلُ إلى الخلاص.”
نبوءةٌ قالتها ليَ العرّافة يومًا، لم أفهمْ القصدَ حينها، لكنّي صدقتها بحكم شرقيتي، وإيماني القويّ بأن الغرباء لا يكذبون، أليستِ العرافاتُ في بلادنا أصدقَ من متنبّئي أخبارِ الطقس، ومن محلّلي السياسة؟!
أكملتُ طريقي إلى المدرسة وأنا أفكرُ فيما قالته لي، وحينما عدتُ للمنزل، هرعتُ نحوَ الفناءِ الخلفيٍّ المهجورِ لبيتنا، ورَغم تحذيراتِ أمّي من عدم الاقتراب من ذلك المكان، إلا أنّي كنتُ أكثرَ إصراراً وعناداً، ولم أعر انتباهي لنداءاتِها ونصائحِها، حفرتُ حفرةً صغيرةً، ثم وضعتُ البذرةَ فيها، وبتّ أعتني بها، أراقبها وهي تنمو، وتزداد طولًا وتفرّعًا يومًا بعد يوم.
هذا كلُّهُ دونَ علمِ أبي الذي كان يكرَه صوتَ حفيفِ الأشجار، وزقزقةَ العصافير، وأيَّ شيء يذكِّرُنا أنّ هنالك حياةٍ في الخارج، وحدها أمّي مَنْ كانتْ تعلمُ وتحذِّرُني من الاقتراب من ذلِكَ المكانِ المهجور، لكنَّها تبتسم لي ولشقاوتي عندما تراني مشغولةً بالعناية بها، وتقول لي: كم تشبهين عمتك هند -رحمها الله-.
رَغم شقاوتي وحبّي للحياةِ، لكن هاجسَ الخوفِ ظلّ يلاحقني، وكلامَ العراَفةِ يترنحُ في رأسي، كلما نسيت أو تناسيت شدّني من ياقتي حتى كاد يخنِقُنِي.
كانتْ مشيئة الله أن أكونَ البنت الوحيدة بين خمسةِ ذكورٍ إخوة، في بيتٍ يمتاز فيه الصبيان عن البنات في كلِّ شيءٍ، ضمن حيٍّ صغيرٍ تخنِقُهُ العاداتُ والتقاليد، وتلاحقُهُ لعنةُ الموتِ المبكر لبناته، يُدعى حيُّ الزّهور، من الأحياء المنغلقة على نفسها، لا ترى فيه أثرًا لشجرةٍ، ونادرًا ما تبنِي العصافيرُ أعشاشَها فيه، أبوابُ أهلِهِ صَدِئةٌ.
لا صوتَ فيه إلا للذكور، شاربُ الرجلِ من المسلّماتِ التي لا يجبُ المساس بها، أما المرأة فهي إنْ خرجتْ من بيتها فإلى القبر لا متنفسَ لها سوى باحة البيت والسماء.
كنتُ فتاةً فضوليةً، أحبُّ الاستكشافَ، كثيرةَ الأسئلةِ، مِلْحاحةً، إذ دائما ما أسأل أمي:
لِمَ ليس لدي جدّة كباقي بنات الأحياء الأخرى؟!
ولِمَ النساءُ يمتن باكرًا يا أمي؟
ولِمَ قامتْ ابنةُ عمتي نورا بالإجهاض، عندما علمتْ أنّها حاملٌ ببنتٍ؟!
وكيف ماتتْ عمتي هند؟!
تتعمدُ أمّي إسكاتي قبلَ أن أكمل أسئلتي، تضعُ إصبعها على شفتي وتقول: هس، حتى لا يسمعوننا.
أقول لها: ومن هم يا أمّي؟!
يصفرُّ وجهُهَا ويشحبُ، وتتمتمُ بكلماتٍ غير مفهومة، أنصرفُ عنها بعد أن أُنهِكَهَا بشقاوتي، أطبعُ قُبلةً على جبينها، ثم أقول لها: لن أتركَكِ سنكملُ في وقتٍ لاحقٍ.
تمرُّ الأيّامُ، وأنا أزداد طولاً، وشكلُ جسمي بدأ يتغير، وأميل لأكون أنثى مكتملةَ الملامح.
بالمقابل، تحدقُ أمّي في وجهي بتوجس الخائف العارف بمصيري، يزداد نحولها، وتبدو عليها ملامحُ المرضِ والهُزال، وتزداد أسئلتي وفضولي، وكعادتها تتهربُ من الإجابة.
شاءتِ الصّدفة وأثناء دخولي المنزل، أن أسمعَ عمّي زياد الذي فقدَ ابنتَهُ منذُ شهورٍ قليلةٍ وهو يُوعِزُ لأبي بأوامره:
-ابنتك أصبحتْ صبيةً، ما الفائدة من التعليم ولعنة الموت تتربص بهن؟!
اكسرْ ساقيها يا أخي، وامنعها من الخروج.
طأطأ والدي رأسه، وصمت دون أن يَنبسَ بحرفٍ واحدٍ.
بدأت تدور في رأسِي الأسئلةُ، أصابني الجمودُ.
ماذا يقصدُ عمي؟!
وأيُّ لعنةٍ تلك؟!
الموت؟!!
عند المساء ناداني والدي، دخلتُ إليه؟ وللوهلة الأولى، أحسستُ أن الذي أمامي ليسَ والدي، انتفخَ صدرُهُ وعلا، وامتلأ بغضبٍ غير معهودٍ منه، ليُخبرنِي دونَ ترددٍ:
– لا خروج مِنَ المنزل بعدَ اليوم…
– لا مدرسة.
– لا تعليم.
-ولكن يا أبي!
– لا أريدُ سماعَ أيّ كلامٍ بهذا الخصوص.
اغرورقتْ عيناي، وارتجفتْ أطرافي، ثم سحبتُ نفسًا عميقًا وأجبتُه بكلّ قوةٍ:
– لا؛ لا أريد.
كانتِ تلك المرّة الأولى التي أقفُ فيها أمامَهُ وأقولُ فيها “لا أريد”
صَفعَنِي والدي، وأنّبني، قائلًا:
-لا تكرريها حتى لا تصفعك الحياةُ.
بكيتُ كثيرٍا وتوسلت إليه كثيرًا، ليُنهِي الأمرَ بلفظته المعتادة:
-“ابلعيها”
يتبع في العدد القادم.