أ. رؤوف جنيدي
في نوباتٍ حائرة من الترقب والانتظار. تدق الأرض بكعبيها ذهاباً وإياباً على رصيف محطة القطار. ترفع كل حينٍ أطراف كمها الأيسر لتعرف كم يتبقى على وصوله. وبينما هي غارقة في التفكير وقد ارتسمت في خيالها أروع مشاهد اللقاء. يعلن ميكروفون المحطة أن القطار القادم على الرصيف ذو الرقم المعلن هو القطار الذي أبلغها أنه قادم على متنه. تتراقص الروح. ويدق ناقوس القلب الذي كثيراً ما افترش حناياه معبداً له بين الضلوع. وتنتفض الأحاسيس تحت حرارة الشمس. ويتلهف الوجدان. تضع نظارتها فوق عينيها حتى لا يفتضح أمر الهوى والشوق. فيكفي ما لا تراه العيون وتتغنى به الجوارح في صمت. ويظهر القطار عن بعد. يتراءى لها وكأنه يتراقص في تؤدة. ويتهادى مختالاً بمن يحمل على متنه. وتقترب من القطار. من العربة التي تحتويه وتحتضنه. تضع يدها على حافة إحدى نوافذ العربة.. وكأنها تتأبط الحبيب الغائب. ترافق القطار سيراً إلى جواره بخطواتٍ تتباطأ رويداً رويداً. إلى أن تصرخ عجلات القطار صرخةً مكتومة بعد أن قبضت الفرامل على عنقها ليلفظ القطار أنفاسه الأخيرة على محطة الوصول. كي ينزل ركابه على الرصيف واحداً تلو الآخر…
تتعلق عيناها بباب العربة انتظارا لسيد العمر وساكن القلب والروح. يلوح في قوامه الممشوق. تعتلى أكتافه نجمات العزة والفخار. كما اعتادت أن تراه دائماً في زي البطولة والفداء. دقائق تمر … ولم يظهر زائر الوجدان. تشرأب الحسناء على أطراف قدميها علها ترقبه خلف الركاب. ثم تسرع لتتفحص العربة عبر نوافذها. عساه كان نائماً أو متأخراً وتعاود أمام الباب من جديد. تسكن حركة الناس وتفرغ العربة كل من كان في أحشائها. تتباعد الحسناء إلى الخلف قليلاً. وينغلق باب العربة. ينفث القطار كومة كثيفة كئيبة من دخانه إيذاناً بالرحيل. وكأنه يقيم لها سرادق العزاء من جديد. يغادر القطار وتمر من أمامها أبواب تلقي الحسناء وجهها بين كفيها وتجهش بالبكاء. فقد كان يأتيها على متن هذا القطار في كل مرة.
قبل أن يسقط شهيداً لإحدى انفجارات الخسة والنذالة في قلب سيناء الحبيبة منذ أشهر قلائل. وتغادر الحسناء إلى بيتها. تحتضن طفليها وتمسح على رأسيهما.. ولكن تُرى من يمسح على قلبها المنفطر. وتخلو الحسناء كل ليلةٍ إلى مخدعها متوسدة دموعها. تناجى شريك العمر الذي غاب. حاملةً له بين جنبيها سؤالاً كثيراً ما أقض مضجعها. حبيبي: هو مين فينا اللي مات؟!