أ.رؤوف جنيدي
عبر الأبواب الخلفية لبيوت أعمامي في الريف والتي كانت متراصَّة إلى جوار بعضها البعض وكأنها أعشاش نحلٍ … كانت تُفرغنا البيوت نحن الأطفال تباعاً بعد أن نهضنا من نومِنا مع أولى زقزقات العصافير وقبل أن يشهق الصباح أولى أنفاسه. ما أن يسمع أحدُنا أصوات الرفاق في الخارج إلا وهبَّ مسرعاً من نومِه للحاق بهم منذ بدء اليوم. كنا نندفع واحداً تلو الآخر إلى منطقةٍ خلاء وراء البيوت افترشت أرضُها بالحشائش تتخللها بعض أشجار فواكه لم تفلت ثمارها من أيدينا مرةً كى تنضج. نتوارى عن بعضنا تحت أفقٍ قطني الملمس وكأن السماء قد سكبت فضتها فوق رؤوسنا. ليتغمدنا أفق فضي اللون مرصَّع بحبات الندى الوضاءة. في نهارٍ جاء يشاركنا اللعب فانتقى أزهى ثيابه وأحلاها…
نروح ونجيء وندور تحت الأشجار وبين خمائل العشب وقد تكورت حولها قطرات الندى فبدت وكأنها كوماتٌ من العهن المنفوش. وباتت الأشجار كثرياتٍ استمدت ضوءها من نور الله. ينادي أحدُنا على رفيقه فيسمعه وهو ولا يراه. نضحك ملء أفواهنا البريئة وقلوبنا الخضراء وقت أن يتفلت أحدُنا من يد أخيه قبل الإمساك به متحسساً صوته تحت طل الصباح ونداه. ندخل بعدها إلى أحد البيوت وقد علقت قطرات الندى فوق رؤوسنا وأبيض بسببها الشعر. فتعلو ضحكاتنا كلما نظر أحدُنا إلى رأس ابن عمه. نتحاكم إلى كبيرِنا: أيٌّ منَّا اكتسى شعرُه بالبياض أكتر من رفاقه؟ ويزهو منتشياً سعيداً مَن فاز. نمسح رؤوسَنا ونعاود الأمر مراتٍ ومرات إلى أن تُبدد حرارة الشمس آثار لعبتنا لنبحث بعدها عن لعبةٍ أخرى تتناسب وساعات الضحى…
وذات يومٍ ليس بالبعيد. قابلت تلك الوجوه وقد تراصت إلى جوار بعضها البعض على مقاعد داخل سرادق عزاءٍ أقيم لواحدٍ ممن سبقونا إلى مثواهم الأخير … وجوهٌ شاخصةٌ متأملة اشتعلت رؤوسها شيباً ووهن العظم منها. وقد أنصتت جميعها إلى قارئ يتلو عليها من آيات الذكر الحكيم. وبين قراءة وأخرى انتبذت ببعضهم مكاناً قصياً عن سُرادق العزاء. أبحث في وجوههم عن ضحكاتٍ من الماضي. فإذا بها غائرة. شحيحة الأسنان. ضنينة الفرحة. لا تتعدى انفراجةً خجولة في ملامح وجهٍ يعلوه شعرٌ أبيض ليس بتقاطر الندى فوق رأسه كما كل مرةٍ وإنما بتقاطر السنين فوق جسده. سرحت قليلاً وسألت الزمن معاتباً: ليه يازمان ما سبتناش أبرياء.. وواخدنا ليه في طريق ما منوش رجوع
وينصرف كل منا إلى همومه تشاغله ذكريات الماضي ويراوده حنين جارف لقطرات الندى…
