أ.روضة محمد

من يومِها وساقاي مبتورتان، حدودِي بابُ البيتِ وسقفِيَ السماءُ، كلّما ضاقتْ بي الدنيا اتجهتُ نحو الفناء الخلفيّ، وراقبتُ الشجرة وهي تنمو، أُحَدِّثُها وأشكو لها حتى اعتدتُ على هذه النمط من الحياة، لكني لم أستسلم.

ليلةَ أمسٍ، وأنا أنظفُ المنزلَ، شعرتُ بشيءٍ من التعبِ، والنعاسُ غلبني.

في المنام، رأيتُ عمتي هند، وهي تمسك يد أمي، وتسحبها عنوةٍ.

نهضتُ وأنا أهلوس من شدّةِ الخوف.

أخبرتُ أمّي بما رأيت، ودون أن أُلِحّ عليها بأسئلتي المعتادة، روت لي قصة اللعنة التي كانتْ تلاحقُ الحيّ بقولها:

_  كان هذا الفناءُ  مليئاً بالأشجارِ والأزهار، و العصافيرُ لا تفارقه، ولطالما حذرتنا جدتُك من الذهاب إلى هناك، وخاصّةً فترةَ مغيبِ الشّمس، ففيه يسكنُ الجنيّ الأحمر، إلا أن عمتك هند كانت عنيدة مثلك، تحب الأشجار والأزهار، وتقوم هي بالسقاية والعناية بهن، هكذا حتى وقع في غرامها الجنيُّ وأحبّها حتى الجنون، وقد كان يلاحقها في كل مكان،  فإذا أزعجها أحدهم، يتعمد أن يؤذيه، ويرمي المارّة بالحجارة، وهي الوحيدة من تستطيعُ رؤيتَهُ، لكنْ لم يصدقها أحدٌ في بادئ الأمر حتّى تمكّن منها، فأصبحت مسلوبةَ الإرادة، منهم من قال تهيُّؤات، ومنهم من قال إنّها مريضة، حتّى الأطباءُ عجزوا عن علاجها.

وفي ليلةٍ من ليالي تموز الحارّة، اختفت عمتك هند، ولم نجدْ لها أثرًا، بقي جَدُكِ ووالدُكِ وأعمامُكِ يبحثون عنها في كلّ مكان، لكن بلا جدوى، وقد أكلَ الناسُ رأسَهُم، فاضطروا للبقاء في المنزل شهورًا، إلى أن وجدوها ذاتَ ليلةٍ ملقاةً في الفناء الخلفيّ للمنزل، في حالةٍ من الجنون والهذيان، وبلحظة غضبٍ وتسرعٍ، قام أبوك بقتلها، كردِ اعتبارٍ، وكي يغلقَ أفواه العالمِ، وفي قرارة نفسه يعلم أنّها بريئةٌ.

-وكيف يقومُ بقتلِهَا وهي بريئةٌ يا أمّي؟!

الناسُ لا ترحم، وهي لحظة غضبٍ وتسرعٍ، دفعتْ ثمنَها العائلةُ كاملة، فقد قام الجنيُّ بحرقِ البيوت، ولم تهدأْ نفسه حتّى هذه اللحظة، فلعنَتُهُ تلاحقُ بنات الحيّ بأكملِهِن، ولم يسلم منه الإنسانُ والحجر، لا شجرةً تنمو، ولا طيراً يعمّرُ فيها، ومنذُ ذلك الوقت وأبوكِ يعيشُ في حالةٍ من تأنيب الضمير، والكوابيسُ لا تفارقُهُ.

-وكأنّي في حُلُمٍ، أيعقلُ هذا يا أمي، أليسَ هناك حلٌّ لهذا الأمر؟!

خاطبه مشايخُ الحيّ جميعهم، لكن لم يستجب لهم.

يقال: إنه يبحث عن فتاة بديلةً عنها، وإلا ستبقى هذه اللعنة ملازمةً لنا طِوالَ العمر.

أخذتُ نفسًا عميقًا، ثم وقفتُ ومشيت باتجاه الشجرة.

-وماذا يعني هذا يا أمي، وأنا أشير للشجرة التي أصبحت بطولي.

– لا تفسيرَ لدي، مشت وتركتني لحيرتي.

ظهيرةَ يوم الأحد، حدث ما كنت أتفاداه.

 لم يكن سهلًا بالنسبة لي، أن أرى ولأوّلِ مرةٍ جثةً هامدةً مستلقيةً أمامي، ماتت أمي، ماتت قبل أن تسقط من السُّلْم، ليس لأن الحِمْلَ ثقيلٌ، وليس لأن السُّلمَ موضوعٌ بطريقةٍ غير صحيحةٍ، أمّي ماتتْ قبلَ أن تصعدَ السّلم، وربّما قبل ذلك بكثير، منذُ أن وضعتْ قدمها في هذا المنزل الملعون، في الوقتِ الذي كنّا نتناولُ الطعامَ فيه بنهمٍ، كانتْ أمّي تبتلعُ الألمَ والقلقَ، الحرمانَ والقهرَ، الخوفَ والكثيرَ من الأدوية والمسكِّنات، حتّى تحولتْ إلى جسدٍ بلا روح، كآلةٍ حدباءَ معطوبةٍ،

كانتْ صدمة كبيرة، بالنسبة لطفلة مازالتْ في السادسة عشر من عمرِهَا، لا تعرفُ معنى الفقد، ولم تتقبلْ فكرةَ أن تعيش وحيدةً، وتتحملَ مسؤوليةَ أسرتِها وأعباءَ ضعف طاقتها، خذلَهَا الواقعُ والوقتُ، ذنبُهُا الوحيدُ أنّها خلقتْ في هذا الحيِّ.

تأملتُها للمرّةِ الأخيرة، لمستُ تفاصيلَ وجهِهَا، وكأنّي أتعرف عليها من جديد، كلّ شيء فيني كان يصرخُ، لكن بصمت، احتضنْتُها، وهمستُ في أذُنِها” لا أريد أن أموت يا أمي”.

لعل الليلة تلك من أقسى ليالي حياتي، نمتُ فيها وأنا أحتصنُ نفسي بنفسي.

وبمزيد من الخوف والقلق، تابعتُ حياتي مثلَ أيّ فتاةٍ أخرى تعيش في هذا الحيّ، لكني لا أستسلم.

كنتُ أقضي معظمَ وقتِي في ذلك الفناءِ المهجورِ، وأخذتُ أفكرُ مليًّا، وأستحضرُ كلامَ العرّافة، وصورتَها التي لا تفارق مخيلتي، مخالفةً كلام أبي وتوسلاته، ضاربةً بها عَرضَ الحائطِ.

وتدريجيا؛ بدأتُ أوقنُ جيدًا معنى كلام العرّافة، لم تكن البذرةُ إلا الأمل بالحياة، وأما الشجرةُ فكانت الحياة بالنسبة لنا، نتشبثُ بها، نتسلقها، وحينما نصلُ إلى قمتِها، نخاف السقوط، وما كان الجنيُّ الأحمرُ ولعنتُه إلا الخوفَ، الذي يتغذى على أعصابنا ومشاعرنا، رضخْنَا له، ورضينا بالموت، وحينما تملَّكَ منَّا ابتلعَنا.

غفوتُ قليلًا دون أن أشعر، لأصحو على يدٍ تنخزُنِي من كتفي، وتشدني من سُباتِي العميق، فتحت عينيَّ على صورته المخيفة، بين الحلمِ واليقظةِ، تراءتْ ليْ صورته، وجهٌ مستطيلٌ بلونٍ أحمرَ، يشبِهُ إلى حدٍّ كبيرٍ القزم ذي الأذنين الكبيرتين، أمسك يدي، تبعْتُهُ وأنا كلّي إيمانٌ بأني سأعود، لا أذكرُ تمامًا كم استغرقَ من الوقت مغيبي عن البيت، لكن كلّ ما أذكرُهُ، أنّي عدتُ وأنا أحملُ بين يديّ طفلًا صغيرًا، بأذنينِ كبيرتين، ووجهٍ مستطيلٍ بلونٍ أحمرَ، حينما أمسكَ برقبتِي وبدأ بالصراخِ مُحاولًا عضِّي ونهش جزءاً من لحمي، ابتلعته ثم أكملتُ غفوتِي بسلامٍ.

الإشارات والرموز:

الجنيّ الأحمر: الخوف في أعلى درجاته

الشجرة: تمثل الحياة بجمالها وألوانها، وتعاقب الفصول عليها يمثل مراحل حياة الإنسان.

الطّفل: الخوف في بداياته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *