زكريا طحاوي
لو اقتصر لعب دور الضحية على توثيق الأحداث والمعاناة أو المطالبة بالعدالة وإعادة الحقوق، لتلاشت المشكلة، ولكن للأسف أصبح أداة تفاوضية يستخدمها كل طرف سعياً للحصول على حصة أو سلطة أو اعتراف أكبر على حساب شركاءه في الوطن، الدروز، الأكراد، العلويون، يرددون خطاباً يتقاطع عند نقطة واحدة: (نحن الضحية الأكبر للنظام السابق) وبالتالي نستحق نصيباً أكبر من مستقبل سورية.
هذه السرديات، وإن بدت مفهومة في ظل ما عاناه الجميع، إلا أنها تحمل في طياتها مخاطر تفتك بنسيج المجتمع السوري وتعيق أي محاولة حقيقية للمصالحة وبناء مستقبل مشترك.
الأسباب والتبعات لعقلية الضحية:
على مستوى الأفراد والجماعات على حد سواء، يعتمد تمثيل (دور الضحية) مبنياً على توقع الشفقة أو جني امتيازات خاصة أو تبرير مزيد من الأخطاء والمظالم بحق الآخر،
وتعتبر الدراسات النفسية وأشهرها أبحاث الدكتور شاي ديفيداي والدكتورة أماندا جيفرز، مؤكدةً على أن من يتبنون عقلية الضحية يميلون للشعور بالعجز والغضب ويصبحون أقل قدرة على بناء علاقات صحية، على مستوى المجتمعات يعزز هذا النهج الانقسام ويخلق منافسة سلبية على الشرعية والتعويضات بدل التنافس على البناء والنهوض.
فخ الضحية وسوريا:
يتكرر السؤال المحوري عند كل عاقل: لماذا يتحول كل طرف إلى ضحية؟ ولماذا يتصدر ذلك بدلاً من خطاب يجمع ويصلح، ويحمل التوافق بين أبناء الوطن الواحد؟
ويكمن الجواب في أن تبنّي دور الضحية يمنح كل طرف احساساً اخلاقياً بالتفوق، وشرعيّة لتجاهل الآخرين، أو تهميشهم أو حتى اقتراف مظالم جديدة بحقهم، وهذا ما نراه بحزن شديد يتصدر المشهد، فمجازر هنا وأخرى هناك والدافع المحرك هو لعب هذا الدور الرخيص.
فالأكراد: يركزون على سياسة التهميش التي عاشوها وحرمانهم من حقوق سياسية وثقافية، وعليه يطالبون بتمكين وحكم ذاتي كتعويض تاريخي لهم.
والدروز: يستحضرون تاريخ الاضطهاد لتبرير تحفظهم أو مطالبتهم بمعاملة خاصة.
العلويون: يسردون تاريخ القمع والاقصاء والحرمان الذي تعرض له اجدادهم كمبرر للبحث عن نصيب أكبر في مستقبل سورية
واللافت أن تبني دور الضحية لم يقف فقط عند حدود الخطاب الداخلي أو المطالب المحلية، بل دفع بعض تلك الفئات إلى حد الاستنجاد بأقذر أنواع الاحتلال -الاحتلال الصهيوني-، بحثًا عن حماية أو مكاسب تقيهم “الظلم” الذي يعتقدون أنه قد يُمارَس بحقهم في سوريا الجديدة.
المفارقة الأكبر أن الفئة الوحيدة التي ارتُكبت بحقها مجازر طائفية موثقة—السنة—هي اليوم الأكثر دعوةً لسوريا تتجاوز منطق المظلومية والانتقام، سوريا خالية من الظلم والقهر لكل مكوناتها، والأكثر انخراطاً في المطالبة بدستور يضمن العدالة والمساواة والمواطنة الكاملة للجميع.
من الناحية العلمية:
الأبحاث الدولية تؤكد أن عقلية الضحية الجماعية (Collective Victimhood) تؤدي إلى تفكك العلاقات المجتمعية، وتُرسّخ مشاعر العداء وعدم الثقة.
دراسة منشورة في مجلة European Journal of Social Psychology أشارت إلى أن تبنّي الشعور بالضحية يساهم في إدامة الصراعات ويقلل من فرص المصالحة بين الجماعات، لاسيما إذا ترافقت مع خطاب التفوق الأخلاقي أو “احتكار الألم”.
دراسة أخرى في Journal of Personality and Social Psychology أثبتت أن الأشخاص الذين يعتنقون دور الضحية يميلون إلى السلبية، ويُظهرون دفاعية وعناداً في التعامل مع النقد أو المبادرات التوافقية، مما يُضعف عملية التعافي النفسي والجماعي بعد الأزمات.
في سوريا الجديدة:
ليس المطلوب تَجاهُل المظالم، ولا إنكار الحقوق، المطلوب هو تجاوز فخ “تضخيم دور الضحية” نحو عقلية تشاركية تتطلع إلى بناء المستقبل، لا إلى تقسيمه بحسابات جراح الأمس، كل مكونات الشعب السوري عانت، وكل مواطن فقد شيئاً، لا أحد يحتكر الألم السوري ولا أحد يملك امتيازاً مطلقاً في رسم المستقبل.
خروج سورية من دورة الصراع يمر عبر التخلي عن “صكوك الضحية” والانخراط في حوار يعترف بالجميع، دون أن تنقلب سرديات المعاناة إلى أدوات للإقصاء والاستحواذ.
إن الخروج من نفق المظلومية والضحية ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة وجودية لسوريا ولجميع أبنائها. التنافس على مظالم الماضي لن يبني دولة، ولن يعيد كرامة، ولن يضمد الجراح. وحده الاعتراف المتبادل، والتسامح، والتطلع لمستقبل يعيش فيه الجميع على قَدّم المساواة، هو الطريق الحقيقي للخلاص.
فسوريا لكل السوريين، لا لفئة دون أخرى، ولا لمظلومية دون سواها. والاستقواء بغرب أو شرق على أبناء وطننا هو خيانة ليس بعدها خيانة. ما من قوة خارجية تمنح الحرية، ولا احتلال يصنع كرامة.
إن كتابة صفحة جديدة في سوريا هي الفرصة الأخيرة لنا جميعاً؛ صفحة تسمح بإيقاف الألم والدماء، وتفتح أفقًا لعصر مجيد، نتعاون فيه على العدالة، والمصالحة، والبناء المشترك. لنصنع وطنًا لا تمزقه سرديات الضحية، بل تجمعه مسؤولية المواطنة وشرف الانتماء.