لورين المرعي
المقاتلون الأجانب في سوريا بين البندقية والطاولة: أثرهم الأمني والسياسي في المشهد السوري والإقليمي
لطالما شكّل وجود المقاتلين الأجانب في النزاعات المسلحة ظاهرة متكررة في التاريخ الحديث، خصوصًا في الثورات التي تشترك فيها الشعوب بأيديولوجيات وتوجهات فكرية متقاربة. ولم يكن النزاع السوري استثناءً من هذه القاعدة، بل شكّل نموذجًا أكثر تعقيدًا من حيث التنوع الأيديولوجي والانتماءات الفكرية والسياسية للمقاتلين القادمين من الخارج.
دخل المقاتلون الأجانب إلى سوريا للقتال إلى جانب صفوف الفصائل الثورية المسلحة ضد نظام الأسد، وانتشروا في مناطق واسعة من الجغرافيا السورية. وتنوّعت دوافعهم بين من حمل فكرًا دينيًا متطرفًا، ومن انخرط في صفوف فصائل سورية معتدلة نسبيًا. هذا التباين الأيديولوجي خلق صراعات داخلية جديدة بين فصائل المعارضة المسلحة نفسها، وأدى إلى تعقيد إضافي في المشهدين العسكري والسياسي، مما جعل ملف المقاتلين الأجانب أحد أبرز أوراق النفوذ والضغط الإقليمي والدولي على مستقبل الدولة السورية، حتى بعد انحسار النزاع المسلح.
شهد التاريخ الحديث نماذج مشابهة لهذه الظاهرة. ففي فرنسا، بعد الحرب العالمية الثانية، تم دمج آلاف المقاتلين الأجانب في الجيش الوطني، وإشراكهم في جهود إعادة الإعمار، خطوة لم تكن سياسية فحسب، بل أيضًا إنسانية، ضمنت عدم عودة هؤلاء إلى تشكيل جماعات مسلحة مستقلة، واحتوت آثار الحرب اجتماعياً وأمنياً.
أما في البوسنة والهرسك خلال تسعينيات القرن الماضي، فقد منحت الحكومة الجديدة الجنسية لبعض المقاتلين ممن تزوجوا محليًا أو ساهموا في الدفاع عن البلاد، بينما تم ترحيل آخرين تحت ضغط دولي، خاصة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، خشية تصاعد الفكر المتطرف الراديكالي.
وفي المقابل، اتبعت إسبانيا بعد انتصار النظام الديكتاتوري سياسة قمعية تجاه المقاتلين الأجانب، إذ جرى نفيهم أو سجنهم دون مراعاة لمبادئ العدالة الانتقالية، ما جعل ملفهم من أكثر الملفات جدلاً في الذاكرة الأوروبية الحديثة.
بالنسبة إلى الملف السوري، فإن هذه التجارب تقدم نماذج متعددة للحلول الممكنة، إلا أن خصوصية المجتمع السوري تجعل من أي مقاربة بسيطة أمرًا غير واقعي. فطبيعة المجتمع وثقافته تختلف جذريًا عن ثقافة كثير من المقاتلين الأجانب، خصوصًا أولئك ذوي الفكر المتشدد.
الدمج، رغم ما قد يحمله من إيجابيات أمنية وإنسانية، يبقى محفوفًا بالمخاطر ما لم يترافق مع إصلاح مؤسساتي وعدالة انتقالية تضمن استيعاب المعتدلين وإعادة تأهيل المتشددين ضمن إطار وطني جامع. كما أن تجاهل الملف أو معالجته بطرق قسرية قد يؤدي إلى إعادة إنتاج جماعات مسلحة مستقلة مستقبلًا.
لا يمكن أيضًا تجاهل أن بعض هؤلاء المقاتلين قدموا بدافع نصرة الشعب السوري كما يرون، وليس بدافع التطرف وحده، في حين استغل آخرون الحرب لتحقيق أهداف أيديولوجية أو سياسية ضيقة. من هنا، فإن التعميم في الحكم على هذه الفئة يعد ظلمًا إنسانيًا وقراءة ناقصة للمشهد.
في النهاية، يبقى ملف المقاتلين الأجانب في سوريا أحد أكثر الملفات تعقيدًا في المرحلة الراهنة. الحلول المطروحة كثيرة، لكن معظمها ما زال رهينًا للإرادات الدولية والإقليمية، التي تحاول استخدامه كورقة نفوذ داخل المفاوضات السياسية.
إن المعالجة السياسية والإنسانية العادلة، القائمة على العدالة الانتقالية والحوار، تبقى الخيار الأضمن لحماية مستقبل الدولة السورية، وتجنب تجدد الصراع بعد أكثر من أربعة عشر عامًا من الحرب التي أنهكت البلاد والشعب.

