زكريا ملاحفجي
شكّلت الحرب السورية المستمرة منذ أكثر من عقد تحدياً وجودياً للنسيج الاجتماعي في البلاد. فالمجتمع السوري الذي تميز تاريخياً بتنوعه الديني والإثني والثقافي، تعرض لانقسامات عميقة نتيجة العنف الممنهج، النزوح، والاصطفافات السياسية والعسكرية.
وبدأت تظهر عصبيات وانتماءات دون وطنية طائفية أو عرقية لم تكن ظاهرة فيما قبل وهذا مؤشر خطير إن تحول المجتمع إلى هذه الانتماءات
فقد أثرّت الحرب على العلاقات المجتمعية، بشكل كبير، فأدّت سنوات الحرب إلى تراجع الثقة بين مكونات المجتمع، حيث غلبت الهويات الفرعية على الهوية الوطنية الجامعة. فالممارسات الطائفية والإثنية، إضافة إلى الاستقطاب السياسي، زرعت الشكوك والخوف المتبادل بين شرائح واسعة من السوريين. كما ساهمت عمليات النزوح الداخلي والهجرة في تفكيك البنى الاجتماعية التقليدية، بما فيها العائلة الممتدة والعشيرة، مما جعل الأفراد أكثر عزلة وهشاشة.
إلى جانب ذلك، تركت الانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان – من اعتقال وتعذيب وتهجير قسري – جروحاً عميقة في الذاكرة الجمعية للسوريين. هذه الجروح لم تقتصر على الضحايا المباشرين، بل امتدت لتشمل مجتمعاتهم بأكملها، مولّدة شعوراً بالظلم والحرمان يصعب تجاوزه دون مقاربة شاملة للمصالحة.
ومع ذلك، ما يزال هذا التنوع ذاته يشكل فرصة حقيقية لإعادة بناء العقد الاجتماعي على أسس أكثر متانة وعدالة.
رغم هذا التفكك، ما تزال بعض الروابط الاجتماعية التقليدية قائمة وتشكل نقاط ارتكاز يمكن البناء عليها. فبعض الروابط والقيادات المجتمعية لعبت ببعض المناطق دوراً في الوساطة وحماية المدنيين من دوامة العنف، فيما تمسكت المجموعات الدينية والثقافية بوجودها رغم الضغوط، مؤكدة أن التنوع عنصر قوة لا ضعف.
من جهة أخرى، برزت منظمات المجتمع المدني – رغم محدودية إمكانياتها – كفاعل مهم في التخفيف من آثار الانقسام. فقد ساهمت في مبادرات محلية للحوار، دعم التعليم، وتقديم خدمات إنسانية عبر خطوط النزاع، مما ساعد على ترميم جزء من الثقة المفقودة بين المجتمعات المتجاورة.
العدالة الانتقالية كشرط للمصالحة
لا يمكن الحديث عن مصالحة حقيقية في سوريا دون معالجة إرث الانتهاكات. فالعدالة الانتقالية – بمفهومها الشامل الذي يجمع بين المحاسبة، جبر الضرر، وكشف الحقيقة – تمثل مدخلاً ضرورياً لإعادة الثقة بين السوريين. أضف إلى تثبيت منع حصول ذلك في القادم إذ إن تجاهل مظالم الماضي يكرّس الانقسام ويزرع بذور نزاعات جديدة في المستقبل.
فتجارب دول أخرى كجنوب إفريقيا ورواندا أظهرت أن الاعتراف بالضحايا وإشراكهم في صياغة مستقبل البلاد هو السبيل لتجاوز العداء وبناء مجتمع متماسك. وفي الحالة السورية، يمكن أن تتخذ هذه العدالة أشكالاً متعددة، بدءاً من لجان الحقيقة، وصولاً إلى برامج التعويضات وإعادة الاعتبار.
نحو عقد اجتماعي جديد
لم يتح للسوريين بلورة عقد اجتماعي سوري من خلال التواضع الواعي من قبل الجميع من أجل الجميع، وإعادة ترميم النسيج الاجتماعي في سوريا تتطلب صياغة عقد اجتماعي جديد يقوم على المساواة في الحقوق والواجبات، ويضمن مشاركة كل المكونات في الحياة السياسية والاقتصادية. هذا العقد ينبغي أن يتجاوز المحاصصات الضيقة، وأن يرسخ مفهوم المواطنة كهوية جامعة فوق كل الانتماءات الأخرى.
كما أن الاستثمار في التعليم والثقافة سيكون عاملاً محورياً في إعادة بناء الوعي الجمعي للسوريين، إذ يمكن للمدارس والجامعات والأنشطة الثقافية أن تصبح فضاءات للتلاقي والتفاهم بين الأجيال الجديدة. إضافة إلى ذلك، فإن تمكين الشباب والنساء وإعطائهم دوراً مركزياً في عمليات المصالحة وبناء المستقبل سيضمن استدامة أي تسوية اجتماعية يتم التوصل إليها.
أعتقد ورغم حجم التمزق الذي أصاب المجتمع السوري، تبقى إمكانية المصالحة قائمة، شرط أن تقترن بإرادة سياسية جادة، وآليات عملية للعدالة الانتقالية، ورؤية شاملة لبناء دولة المواطنة. فالتنوع السوري، الذي كان يوماً ما مصدر غنى حضاري وثقافي، يمكن أن يعود ليكون أساساً لوحدة جديدة أكثر رسوخاً وعدلاً. إن استعادة الثقة بين السوريين ليست مهمة سهلة، لكنها تظل المدخل الوحيد لبناء سوريا مستقرة، متصالحة مع ذاتها، وقادرة على النهوض من جديد.
الانفتحاح والتشاركية على الجميع وإغلاق أبواب الخارج التي تعبث بالسوريين، وتواضع السوريين لبعضهم من أجل مستقبل مشترك هو الذي ينبغي أن يسود اليوم.
د. زكريا ملاحفجي