أ. نيروز جلبي، أستاذة في الإدارة الدولية وتطوير الأعمال
بعد عقود من الصمت، وانكسار الجدران التي كانت تحاصر الحلم، يقف الشعب السوري اليوم أمام لحظة تاريخية لا تأتي إلا مرة واحدة في عمر الأمم، لحظة تختلط فيها دموع الخسارة بدموع الفرح، ويقف فيها كل فرد أمام سؤال واحد “وماذا بعد؟”.
لم تعد القيادة حكراً على كرسي، ولا القرارات تصدر من وراء أبواب مغلقة. اليوم، القيادة تبدأ من قلب الحي، من جلسة على طاولة المقهى، من نقاش بين الجيران، ومن فكرة صغيرة قد تشعل مساراً جديداً لوطن بأكمله؛ لكن لكي نتمكن من تخطي هذه المرحلة الانتقالية دون أن نضيع في متاهات الفوضى، نحتاج إلى خارطة واضحة {خارطة تبدأ من الفرد وتنتهي بالأمة}.
القائـد ليس شخصاً واحداً: كيف نصنع قيادة جماعية لمجتمع كامل؟
في سوريا الجديدة، يجب أن نمحو الفكرة القديمة التي تقول إن “القائد هو شخص واحد يلهم ويتحكم”، إن القيادة الحقيقية هي شبكة من الأشخاص كل واحد منهم يحمل جزءاً من المسؤولية، لأن القيادة الجماعية ليست فوضى، بل هي توزيع للأدوار بحيث لا يسقط الوطن إذا غاب فرد، ولا تتوقف المبادرات إذا تعثر شخص. إن المجتمع الذي يقوم على القيادة الجماعية يخلق بيئة يشعر فيها كل فرد أن صوته مسموع وأن جهده يترك أثراً؛ وهذا لا يتحقق إلا عبر بناء الثقة بين الأفراد، ووضع آليات واضحة لتوزيع المهام واعتماد مبدأ الشفافية في كل قرار يُتخذ، فحين يعرف الجميع لماذا نتحرك، وكيف نتحرك، وإلى أين نتجه، يصبح الالتزام بالعمل الجماعي أقوى من أي سلطة مفروضة. فـالقيادة الجماعية تشبه نهراً تتفرع مياهه إلى جداول كثيرة كلاً منها يروي أرض مختلفة، لكن جميعها تعود لتصب في مجرى واحد.
التأثير بلا سلطة: كيف تقود التغيير وأنت مواطن عادي؟
لا تحتاج إلى لقب أو منصب لتصبح قائداً، يكفي أن تبدأ من حيث أنت (ساعد جارك، نظّم مجموعة عمل صغيرة، أطلق مبادرة في حيّك، أو شارك في نقاش بنّاء)، لأن التأثير في المرحلة الانتقالية يبدأ من الأعمال الصغيرة التي تتكاثر وتلهم الآخرين؛ وسلطة التغيير هنا ليست في يد الحكومة، بل في يد كل شخص قادر على الإقناع والتحريك. إن التأثير الحقيقي لا يُقاس بكم النفوذ الذي تملكه، بل بقدرتك على تحريك مشاعر الناس وإشعال الرغبة في الفعل داخلهم. فالمواطن الذي يبدأ بحل مشكلة في شارعه، أو يساهم في تنظيف ساحة عامة، أو يشارك مع آخرين في ترميم مدرسة مهدمة، قد يكون أثره أعمق من أي قرار رسمي يصدر من الأعلى. في سوريا الجديدة المواطن العادي ليس متفرجاً ينتظر ما ستفعله السلطات، بل شريك فعّال في صناعة الحلول؛ يمكن لكل فرد أن يكون صانع تغيير من خلال أفكاره وشبكة علاقاته وقدرته على إقناع الآخرين بالمشاركة، حتى الكلمات التي نقولها والمواقف التي نتخذها في حياتنا اليومية تترك بصمة على من حولنا وقد تتحول إلى حركة اجتماعية صغيرة تنمو مع الوقت.
من المبادرة الفردية إلى الشبكة المجتمعية: كيف نتعاون بلا مركزية؟
الفرد القوي سمة مميزة، لكن الفرد وحده لا يصنع وطناً. لا بد أن تتحول المبادرات الفردية إلى شبكة واسعة من التعاون مثل شبكات الأحياء، فرق التطوع والروابط المهنية كون هذه الهياكل اللينة قادرة على التحرك بسرعة، وإيصال المساعدة وإيجاد الحلول حين تكون المؤسسات الرسمية بطيئة أو غائبة. إن القوة الحقيقية للشعوب في أوقات التحول تكمن في قدرتها على بناء روابط متينة بين الأفراد والمبادرات، هذا النوع من التعاون اللامركزي يمنح المجتمع مرونة كبيرة، لأنه لا يعتمد على جهة واحدة قد تتعطل أو تتأثر بالظروف.
وفي السياق السوري يمكن أن نرى أهمية هذه الفكرة في كيفية تعامل الناس مع الأزمات الأخيرة، حيث كانت شبكات المتطوعين في المدن والقرى تتحرك أسرع من أي مؤسسة، وتقدم المساعدة في أماكن يصعب الوصول إليها رسمياً. هذه النماذج تثبت إن الانتقال من المبادرة الفردية إلى شبكة مجتمعية هو الخطوة التي تضمن أن الفكرة التي تولد في ذهن شخص واحد يمكن أن تتحول إلى حركة مجتمعية واسعة تحقق تغييراً حقيقياً على الأرض.
فن اتخاذ القرار الجماعي: كيف نتفق على ما نريد رغم اختلافاتنا؟
سوريا الجديدة لن تكون نسخة متطابقة من أحلام الجميع، لكن يمكن أن تكون مساحة مشتركة يلتقي عندها المختلفون، ولأن القرار الجماعي فن يقوم على الحوار، والاحترام، وتقديم مصلحة المجتمع على المصلحة الفردية، فإن المرحلة الانتقالية تحتاج إلى أن نتعلم كيف نصغي، وكيف نقبل أن يكون الحل “أفضل الممكن” لا “المثالي المستحيل”.
القرار الجماعي لا يعني أن الجميع سيخرج راضياً بنسبة 100%، بل يعني أن الجميع ساهم في صنع القرار وشعر أن صوته مسموع، حتى لو لم يتحقق كل ما يريد، ضمن مجتمع متنوع مثل سوريا القدرة على الوصول إلى حلول وسط هي مهارة وجودية كونها تمنع الخلافات الصغيرة من أن تتحول إلى صراعات مدمرة، ولتحقيق ذلك يجب أن نؤسس لثقافة الاستماع الفعّال، حيث نصغي حقاً لفهم وجهة نظر الآخر لا لنستعد للرد عليه، كما يجب أن نتعلم إدارة الخلافات بدل محاولة إلغائها، وأن نركز على الأهداف المشتركة مثل الأمن، الاستقرار، وتحسين معيشة الناس، حتى لو اختلفنا على التفاصيل.
إدارة الموارد القليلة: كيف نصنع الكثير بالقليل في إعادة الإعمار؟
الإعمار لا يبدأ فقط من الاسمنت والحديد، بل من القدرة على توظيف كل ما نملك بحكمة. في سوريا القادمة ستكون الموارد قليلة لكن الذكاء في استخدامها هو ما سيصنع الفارق، يمكن أن نعيد بناء مدرسة بجهود أهالي الحي، أو نطلق مشروعاً اقتصادياً صغيراً من بقايا مصنع مهمل، فــ الإبداع هو العملة الذهبية في مرحلة الموارد المحدودة. في هذه المرحلة، قيمة الموارد ليست في حجمها، بل في طريقة إدارتها، كل ساعة من وقت متطوع يمكن أن تتحول إلى جزء من حل كبير إذا تم توظيفها بذكاء. وهذا يتطلب عقلية ترى في المخلفات إمكانيات، وفي الصعوبات فرصاً.
المرحلة الانتقالية ليست امتحاناً للحكومة القادمة فقط، بل امتحاناً للشعب نفسه: هل نستطيع أن نكون قادة لــمصيرنا؟
إن مستقبل سوريا لن يكتب في المؤتمرات وحدها، بل في الأسواق، والمدارس، والمزارع، وفي كل بيت يقرر أن يكون جزءاً من الحل، وسقوط النظام السياسي لا يعني بالضرورة قيام نظام أفضل، ما لم تتشكل قواعد ثابتة تُبنى عليها الثقة والتعاون والعدل. هذه القواعد لا تفرض من الخارج، بل تتكون تدريجياً من خلال الممارسات اليومية، وتوزيع الأدوار، واحترام آليات اتخاذ القرار، وحسن إدارة الموارد المتاحة. وحين يتمكن المجتمع من ضبط إيقاعه بنفسه، وتوزيع مسؤولياته بعدالة، واستثمار موارده بحكمة، فإن أي محاولة لإعادته إلى الفوضى أو السيطرة الفردية ستجد أمامها منظومة متماسكة قادرة على حماية مكتسباتها. وفي النهاية، إذا تعلمنا أن نقود أنفسنا، فلن يستطيع أحد أن يقودنا نحو الفوضى من جديد.