مصطفى عبد الوهاب العيسى
من وجهة نظري ، لم يكن النظام الدولي في أي يوم من الأيام نظاماً أحادي القطب ، حتى في الفترات التي تُصنَّف عادة على هذا النحو من قبل معظم الباحثين في العلاقات الدولية ، وذلك لأنه عند النظر بموضوعية وعمق إلى تفاصيل تلك السنوات والعقود ، والتي يُشار إليها غالباً بأنها شهدت هيمنة قطب واحد ، نجد أنها كانت حافلة بالحروب العسكرية ، والأزمات الاقتصادية الخانقة ، وغيرها من التحولات الكبرى التي تنفي فكرة الأحادية المطلقة .
وإن كانت معالم الثنائية القطبية واضحة في مرحلة الحرب الباردة ، فإن ملامح النظام متعدد الأقطاب اليوم أكثر وضوحاً ، وهذا النظام فرضته متغيرات الواقعية السياسية بما لا يدع مجالاً للشك في أننا نعيش مرحلة من التعددية الدولية ، ولا شك أن لهذا النظام الدولي الجديد انعكاساته على المستوى الإقليمي ، حيث تبرز أنماط من التوازنات السياسية الثنائية والثلاثية وغيرها بما يعكس توازنات المصالح والنفوذ للدول العظمى .
يُعد توازن القوى – سواء كان متقارباً نسبياً أم متفاوتاً – وتقاسم النفوذ والحصص الاستثمارية ، والمشاريع الاقتصادية الكبرى القاسم المشترك الوحيد في خضم التناقضات الدولية القائمة ، وتُعد منطقة الشرق الأوسط – باعتبارها إحدى أهم البقاع الجغرافية في العالم – محوراً رئيسياً لهذه المعادلات ، وانطلاقاً من ذلك فإن تحقيق قدر معقول من الاستقرار السياسي في هذه المنطقة لم يعد خياراً مطلوباً كالسابق ، بل ضرورة مستعجلة لما له من تأثير مباشر على استقرار النظام الدولي برمَّته ، فاضطراب الأوضاع في الشرق الأوسط لا يهدد التجارة العالمية ومساراتها فحسب ، بل يفتح أيضاً المجال لتفاقم ملفات معقدة كالهجرة ، والتطرف ، والإرهاب ، وغيرها من القضايا والتحديات العابرة للحدود .
في هذا السياق ، تبرز أهمية خريف سوريا بكل ما يحمله من دلالات تتجاوز حدود الزمان والمكان ، فالأشهر القليلة المقبلة تشكل اختباراً حاسماً في وضع حجر الأساس لتوازن مأمول ، وقد يُفضي إلى خريف هادئ تتبلور فيه ملامح الاستقرار ، أو إلى خريف غضب يعيد خلط الأوراق ، وربما يرسم خارطة طريق جديدة لسوريا والمنطقة بأسرها .
يوماً بعد يوم ، يتحسَّن موقف السلطة في دمشق من ناحية الحصول على الدعم الكافي خارجياً للاستمرار من اتفاقيات اقتصادية ، أو تفاوضات ، أو علاقات دبلوماسية، أو لقاءات رفيعة المستوى ، أو انفتاح ملحوظ من بعض الدول ، وما شابه ذلك ، ولكن هذا الدعم غير كافٍ ، ولا يمكن التعويل عليه ، فقد شهد النظام السابق قبل سقوطه بأشهر قليلة انفتاحاً لا بأس به أيضاً .
أما داخلياً – مع الأسف – فإن الوضع غير مطمئن مع اتساع الفجوة شيئاً فشيئاً بين دمشق وقوى فاعلة على الأرض ، وخاصة مع غياب التوازن السياسي الداخلي الذي يضمن الحقوق الأساسية العامة لجميع السوريين ، ويؤمِّن المشاركة السياسية كما يجب ، ويكفل حضور النخب الوطنية أحزاباً وأفراداً في صياغة رؤية جامعة لمستقبل سوريا .
لا تزال إيران ، رغم إنهاكها وتراجع دورها الإقليمي حاضرة في المشهد ، فيما تسعى إسرائيل المنخرطة في مختلف الملفات الإقليمية إلى التقاط أنفاسها بعد عامين من الاستنزاف المستمر .
في المقابل ، تمضي رؤية السعودية 2030 نحو أهم مراحلها مع مطلع عام 2026 ، وينطبق الأمر ذاته على معظم دول الخليج التي تسير بخطى ثابتة ومستقرة في تنفيذ خططها المستقبلية والعملية .
الأشهر القادمة ستكون حاسمة في العديد من الملفات الحساسة ، مثل غزة والضفة و سلاح حزب الله اللبناني ، والقضايا الداخلية في كل من مصر والأردن ، إضافة إلى الانتخابات المرتقبة في العراق ، وانتخابات مصيرية لقوة إقليمية بحجم تركيا بعد حل حزب العمال الكردستاني لنفسه .
كل هذه التطورات تنذر بأزمات محتملة قد تعصف بالمنطقة إذا كان خريف سوريا غاضباً ، واختلطت فيه الأوراق السياسية المختلفة .
إن ما سيحدد فيما إذا كان خريف سوريا هادئاً ويقود إلى توازن إقليمي ، أم أنه سيحمل في طياته تصعيداً إضافياً ، يعتمد بدرجة كبيرة على مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية .
من بين هذه العوامل انتخابات مجلس الشعب التي أصبحت معقدة ، ومن الأفضل إيجاد آلية تضمن حقوق المشاركة لجميع المحافظات ، وكذلك جدوى السياسات الاقتصادية المتبعة ، والتي تحتاج إلى تفصيل حول آخر السياسات النقدية الخاصة بحذف صفرين من العملة ، إذ لم يتم توضيح الإجراءات المرافقة لذلك ، ولا الإجابة عن الاستفسارات الكثيرة التي تحتاج لشروحات كافية ، ولا يمكن البت بصحتها أو خطئها دون تحليل مطول . وطبعاً هناك ضرورة إطلاق حوار وطني شامل لجميع القوى والمكونات دون مزيد من التسويف والتأجيل ، وحبذا لو كان اليوم قبل الغد .
كما تلعب العوامل الخارجية دوراً مهماً ، مثل مستقبل صراع نفوذ القوى الإقليمية في سوريا وتأثيره على المشهد السياسي الداخلي وأزماته المتراكبة ، وأيضاً الجدل حول تمثيل الرئيس الشرع لدمشق بعد غياب عقود طويلة في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة ، وانعكاسات ذلك على قرار مجلس الأمن رقم 2254 ، والذي عاد ليتصدر شاشات الأخبار والواجهة الاعلامية من جديد .
هذا الواقع المركَّب يجعل من الضروري التعامل مع المرحلة القادمة بكثير من الحكمة والوضوح ، إذ قد تكون الفرصة الأخيرة لإرساء الاستقرار السياسي في سوريا والمنطقة بأسرها .
مجازاً ، يمكن القول إن “برلمان الشرق الأوسط” بات مطالباً بتشكيل حكومة وحدة وطنية تضم جميع القوى المتنافسة على الصعيدين السياسي و الجغرافي خلال العامين الماضيين ، غير أن نجاح هذه الحكومة يظل مرهوناً بتحقيق توازن حقيقي ، فلا يمكن أن يُكتب لها النجاح في ظل نفوذ كامل لقوة إقليمية على حساب أخرى ، كما أن المعارضة – وإن كانت تمتلك عدداً محدوداً من المقاعد البرلمانية – تظل قادرة على تعطيل تشكيل هذه الحكومة إذا ما تم تجاهل دورها وتأثيرها .