عثمان قول أغاسي


دفعنا، نحن السوريين، ضريبةً باهظة من الدم والغياب والفقد، لا لأننا اخترنا الموت، بل لأننا اخترنا الحياة. حياةً كريمة، حرّة، تُصان فيها إنسانيتنا، وتُحفظ فيها كرامتنا، ويكون لنا فيها حق القرار والمستقبل. لذلك فإن الحديث عن الموت في واقعٍ يموج بالصراعات والآلام، ليس حديثاً عن النهاية بقدر ما هو حديثٌ عن المعنى، وعن الغاية، وعن المشروع الذي حملناه ولا نزال نحمله رغم كل شيء.

ومن هنا يفرض السؤال نفسه بإلحاحٍ مؤلم:
لماذا نموت ونحن أصحاب مشروع حياة؟

هذا السؤال، في جوهره، لا يتعلّق بالموت بوصفه حدثاً بيولوجياً أو قدراً محتوماً، بل يتعلّق بفهمنا للحياة ذاتها، وبطبيعة المعركة التي خضناها ونخوضها، وبالدور الذي ارتضيناه لأنفسنا في زمنٍ اختلطت فيه القيم، وتشوّهت فيه المفاهيم.

هناك من يتوهّم أن موتنا كان نتيجة ضعف، أو قلة حيلة، أو عجزٍ عن حماية أنفسنا، وكأنّ الغاية القصوى من الوجود هي مجرّد البقاء. لكن هذا الفهم السطحي يتجاهل حقيقة أساسية:
أنّ الموت الذي دفعناه لم يكن نقيض الحياة، بل كان وجهاً من وجوه الدفاع عنها.

نحن لم نقدّم أرواحنا لأننا نُحب الموت، ولا لأننا نهوى الفناء، بل لأنّ مشروعنا منذ البداية كان مشروع حياة كريمة، حياةٍ لا تُقاس بطول العمر وحده، بل بقيمته ومعناه. فالقضية لم تكن يوماً في الموت ذاته، بل في المشروع الذي نموت لأجله، وفي الغاية التي تجعل التضحية فعلاً أخلاقياً لا عبثاً دموياً.

وكما أنّ أزمات منطقتنا فرضت علينا مواقف مصيرية، كان لا بدّ منها كي لا نستسلم، وكي نستمر، وكي نؤمن بأن الانتصار ممكن ولو طال الزمن، فإنّ السؤال اليوم يتخذ شكلاً جديداً وأكثر تعقيداً:
هل ما زلنا نُحسن إدارة العلاقة بين الحياة والموت؟

نحن نموت لأنّ الحياة التي نطلبها ليست مجرّد طعامٍ ومسكنٍ وأمانٍ فردي، بل هي حياة وطن، وحياة أمة، ورسالة، وهوية، ومستقبلٍ مشترك. وهذا يضعنا أمام حقيقة لا يمكن الهروب منها:
أنّ من يصنع الحياة هو ذاته الذي يُطالَب أحياناً بأن يحميها بروحه.

غير أنّ التحوّل الذي نعيشه اليوم، بعد التغيير، يفرض علينا مسؤولية جديدة لا تقل أهمية عن مسؤولية المواجهة. فالسؤال لم يعد فقط: كيف نُضحّي؟
بل أصبح: كيف نتجنّب الدم من جديد؟ وكيف نمنع تكرار الأسباب التي قادت إليه؟ وهل نحن قادرون على إتقان هندسة مشروع الحياة والاستقرار الذي نريده؟

هذه ليست أسئلة نظرية، بل مسؤولية جماعية، أخلاقية وسياسية وثقافية. فنحن شعوب أثبتت، مراراً، استعدادها للتضحية، لكن الاستعداد للموت وحده لا يكفي. ما نحتاجه اليوم هو فهمٌ أعمق للعلاقة بين الحياة والموت، وإتقان أدوات تُقلّل من كلفة الدم، وتُعزّز فرص الحياة الصحيحة والكريمة.

فكما استعددنا للموت، يجب أن نتعلّم كيف نستعد للحياة.
وكما خضنا معارك الصمود، علينا أن نخوض اليوم معارك البناء، ومعارك الاستقرار، ومعارك ترميم الإنسان قبل الحجر.

صحيح أنّ من يموت في سبيل قضية واضحة إنما يُمهّد، في كثير من الأحيان، لولادة حياة أوسع في الغد. وهذه شجاعة تُحترم وتُقدَّر. لكن المرحلة الراهنة تتطلّب شجاعةً من نوعٍ آخر:
شجاعة التخطيط،
وشجاعة ضبط الانفعال،
وشجاعة بناء المؤسسات،
وشجاعة الحفاظ على الأرواح حين يكون الحفاظ عليها هو الواجب.

نحن بحاجة إلى وعيٍ أعمق وأوضح، وعيٍ يعرف متى نواجه، ومتى نتقدّم، ومتى تُقدَّم الروح، ومتى تُبنى الدولة، ومتى يكون حفظ الدماء هو الشكل الأعلى من أشكال الوفاء للتضحيات السابقة.

فالمشاريع التي لا تُدار بعقلٍ استراتيجي ورؤية بعيدة المدى، تتحوّل إلى مشاريع تستهلك أبناءها بدل أن تحميهم، وتُهدر طاقاتهم بدل أن تستثمرها، وتُقدّم الموت في غير موضعه، فتخسر الحياة التي ادّعت الدفاع عنها.

ومن هنا يصبح سؤالنا اليوم أكثر إلحاحاً وصدقاً:
هل أعددنا ما يكفي من الوعي، والأدوات، والخطاب، والإدارة، كي تتحوّل تضحياتنا إلى ثمار حقيقية، لا إلى دورات متكرّرة من الفقد؟

إنّ الموت في سبيل الله، وفي سبيل قضية عادلة واضحة، ليس مأساة.
لكن المأساة الحقيقية أن يحدث الموت بلا وضوح، وبلا رؤية، وبلا تراكم خبرة، وبلا جهد صادق لتجنّبه حين يكون تجنّبه ممكناً.

فالحياة التي نريد بناءها لا تُبنى بالشعارات وحدها، ولا بالعاطفة وحدها، بل تحتاج وعياً ناضجاً، وخطاباً مسؤولاً، وإدارة رشيدة، وبنية داخلية صلبة. وتحتاج، عند الضرورة، رجالاً ونساءً يعرفون متى تكون التضحية واجباً، ومتى يكون حفظ الروح هو الواجب الأسمى.

ذلك هو التحدّي الحقيقي أمامنا اليوم:
أن نظلّ صُنّاع حياة…
وألّا نسمح للموت، مهما كان نبيلاً، أن يُسرق من معناه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *