نيروز جلبي

في خضم الأزمات تولد فرص عظيمة، وسوريا التي أنهكتها سنوات الحرب والتفكك تقف اليوم عند مفترق طرق حساس؛ مرحلة انتقالية لا تشبه ما قبلها ولا تدار بأدوات الماضي بل تتطلب بروز قيادة جديدة – إدارية، رشيدة، وواعية لدورها في بناء الدولة لا احتكارها.

أولاً: سوريا لا تحتاج زعيماً، بل مديراً عاماً للدولة

الزعامة، كما عرفت في القرنين الماضيين اعتمدت على الخطابة والكاريزما والصوت المرتفع في مواجهة الأزمات. لكن الدولة الحديثة لا تُبنى على مجدٍ شخصي، بل على مؤسسات دائمة تتجاوز الأفراد.
إن سوريا، في مرحلتها القادمة لا تحتاج من “يلهم الجموع” بقدر ما تحتاج من يُشرف على إعادة ترتيب البيت الداخلي، من يُدير العمل الحكومي بمنهجية، ويضع البنية التحتية للحوكمة الرشيدة. القائد الانتقالي يجب أن يتصرف كمدير عام لدولة منهكة، يبدأ من تقييم الموارد المتاحة ويرسم أولويات الإنقاذ ويبني خططًا قابلة للقياس ويؤسس أنظمة مراقبة ومساءلة.

ثانياً: التحدي الإداري أعقد من التحدي العسكري

حين يتوقف إطلاق النار، لا تتوقف المعارك بل تتحول من الجبهات إلى الدواوين ومن البنادق إلى القرارات، إن العشوائية التي قد تُقبل في ظروف الحرب لا يمكن التساهل معها في بيئة إعادة الإعمار؛ المؤسسات بحاجة إلى قادة يتقنون فن التنظيم والتخطيط والتنفيذ لا إلى شعارات.

فالتحدي الإداري يعني:

* بناء شبكات خدمات فعّالة للمواطنين، لا مجرد مكاتب.

* ضبط الإنفاق، ووضع موازنات واقعية.

* تفعيل العمل المؤسسي بدل الإدارة بالمزاج والانطباع.

* إعادة تدريب الكوادر المحلية لتكون نواة التغيير.

ثالثاً: الداخل لا يكفي… هناك جيران يراقبون

القيادة الانتقالية لا تعمل في فراغ، سوريا محاطة بدول متداخلة في شؤونها سواء اقتصادياً أو أمنياً أو حتى ديموغرافياً، لذلك فإن شكل القيادة السورية القادمة سيكون له أثر مباشر على مواقف دول الجوار، وعلى فرص التعاون أو العزلة.

القائد الإداري في هذه المرحلة بحاجة إلى:

* قراءة عميقة للسياسات الإقليمية.

* فتح قنوات تنسيق رسمية وغير رسمية.

* تقديم خطاب عقلاني يحترم مخاوف الآخرين دون التنازل عن السيادة.

* بناء شراكات قائمة على المصالح لا الانتماءات.

رابعاً: سمات القائد الإداري لسوريا المستقبل

ليست المهمة بناء شخصية بطولية، بل شخصية يمكن الاعتماد عليها.قائد انتقالي فعال يجب أن يجمع بين أربع صفات جوهرية:

واقعي لا خيالي: يعرف أن التغيير التدريجي أقرب للنجاح من القفز في الفراغ.

مؤسسي لا فرداني: يسعى إلى تمكين النظم لا تعزيز النفوذ الشخصي.

مُتّزن لا منقسم: يتعامل مع جميع الأطراف باعتبارهم شركاء في الإنقاذ لا أعداء أو منافسين.

قادر على التعلم: منفتح على الخبرات الدولية، ويتفاعل مع التقييم والنقد.

أخيراً: لا معجزة… بل تخطيط

الانتقال السلمي والمؤسسي في سوريا لا يتطلب ظهور قائد أسطوري، بل يحتاج إلى بيئة تتبنى معايير واضحة لاختيار القادة وتستند إلى الكفاءة لا إلى الولاء، وإلى النزاهة لا إلى المحسوبية. كلما أسرعنا في بناء هذه البيئة، اقتربنا أكثر من إنهاء حالة التآكل المؤسسي، وبدأنا أولى خطوات التحول الحقيقي.

الطريق من الدمار إلى الإدارة ليس خطاً مستقيماً، لكنه طريق ممكن إذا امتلكنا الشجاعة للبدء، والحكمة لاختيار من يقود المرحلة لا من يتصدر المشهد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *