أ.رنا جابي

كانت فاطمة بنت محمد الفهرية، القرشية الأصل، التونسية النشأة، زهرةً نبتت في أرض القيروان سنة 800م، من نسلٍ عريقٍ يعود إلى الفاتح عقبة بن نافع. نشأت في بيتٍ أحبّ العلم وأهله، فشبّت على توقٍ دفين إلى أن يكون لها أثر يمنح الدنيا نورًا لا يغرب.

ولمّا هاجرت أسرتها من القيروان إلى فاس في المغرب، كانت المدينة تستقبل موجاتٍ من الهجرات الأندلسية والإفريقية، فأصبحت ملتقى حضاراتٍ وعلوم. وهناك، عاشت فاطمة شبابها، وتزوّجت، لكنّ الأيام لم تلبث أن امتحنتها؛ فمات زوجها، ثم والدها، فاجتمع لها إرث واسع، تشاركته مع أختها مريم..

حارت فاطمة في أمر هذا الإرث، حتى هداها الله إلى القرار الذي خلد اسمها في صفحات التاريخ. حيث عزمت على أن تجعل مالها صدقة جارية، فاختارت العلم بيتًا، والإنسان طريقًا، والخلود غاية.

سمعت فاطمة أن مسجد الشرفاء في فاس لم يعد قادرًا على استيعاب المصلين والطلبة الوافدين من بقاع شتى. فاشترت أرضًا من رجل من قبيلة هوّارة، ونذرت أن تبني مسجدًا جديدًا يكون قبلة للعلم والعبادة معًا. وفي رمضان من عام 859م بدأت رحلة البناء، وأشرفت بنفسها على كلّ خطوة: حفرت بئرًا بيديها لسقاية البنّائين ولتبقى صدقة جارية، ووقفت على الأعمال الحجرية والخشبية، وقطعت على نفسها عهدًا أن تصوم طوال فترة البناء حتى يبارك الله سعيها.

وسمت المسجد بـ”القرويين” تيمنًا بمسقط رأسها القيروان وكأنها أرادت أن يبقى الجسر بين البلدين معمورا بالعلم لا بالمسافات.

ومع مرور السنين، لم يعد مسجد القرويين بيتًا للصلاة فقط؛ إذ تحوّل سريعًا إلى معهدٍ ديني ثم إلى أكبر كلية عربية في بلاد المغرب، حتى اعتُبر —بحسب غالبية المؤرخين— أول جامعة في العالم، يسبق ظهور جامعات أوروبا بما يقرب من قرنين.

ومع القرن الرابع عشر الميلادي، كان صيت الجامعة قد ذاع حتى صارت مقصد العلماء والفقهاء والفلاسفة. وأحاطت بها المدارس العلمية، وازدهرت مكتبتها الشهيرة التي ضمّت آلاف المخطوطات النفيسة، بل انضمت إليها مكتبة السلطان يوسف بن عبد الله الموحّد، فغدت تنافس مكتبة قرطبة التي قيل إنها تجاوزت 600 ألف مجلد.

وقد تتلمذ في رحاب القرويين رجالٌ غيّروا وجه الحضارة الإنسانية

عبد الرحمن بن خلدون واضع علم الاجتماع

ابن رشد الفيلسوف والطبيب والقاضي الكبير

غيربر دُوريّاك (سيلفستر الثاني) الذي أصبح لاحقًا بابا روما، الذي يُنسب إليه إدخال الأرقام العربية إلى أوروبا، وغيرهم من الأدباء والشعراء والفلكيين والرياضيين.

كانت الجامعة منارة، وكانت فاطمة شرارتها الأولى. ولم يكن غريبًا أن تُلقّب بـ “أم البنين” لكثرة ما أعالت طلبة العلم، فكانت تحنو عليهم كما تحنو الأم على أبنائها.

لقد ألهبت أعمال فاطمة قلب أختها مريم الفهرية، فما لبثت أن حذت حذوها، فأسست مسجد الأندلس سنة 861م، ليكون شاهدًا آخر على أن بيت الفهرية كان بيتًا للعلم كما كان بيتًا للعبادة.

لم يُذكر في كتب التاريخ الكثير عن السنوات الأخيرة من حياة فاطمة الفهرية، وربما ذلك لأن الناس حين يذكرون البناء العظيم ينسون البنّاءة، وحين تلمع المنارة يخفت ظل من أنارها. لكنّ آثارها تروي الحكاية امرأة صامت لتبني، ووهبت لتمنح، وأضاءت لتضيء، ثم مضت بهدوء تاركة خلفها صرحًا يفيض بالحياة إلى يومنا هذا.

وربما لو عاد الزمان ومرّت فاطمة في رحاب القرويين اليوم، لرأت آلاف الوجوه القادمة من كلّ الدنيا، ولكانت ابتسامتها أكبر من كل ما شيّدته يداها، لأنها أدركت أن من يزرع علمًا لا يموت أبدًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *