د.جمال خضير الجنابي

الأداء بلغة الموروث:

يمثل الموروث الأدبي مصدراً مهماً من مصادر الشعراء المحدثين، وله بالغ الأثر في إغناء أدب الحاضر، لما يحويه في طياته من تجارب متعددة وصور وأفكار ومعانٍ لا تحصى، فهو تجربة إنسانية غنية تمخضت عنها الحياة عبر التاريخ تتعدى نطاق الفائدة الأدبية، إلى فائدة شمولية ذات طابع إنساني، ولاسيما تراثنا العربي والكردي الثقافي والشعري، فهو جزء لا يتجزأ من التراث الإنساني الشامل.

فكان حرياً بالشاعرة ألا تتجاهل هذا الكنز الثمين من الخبرات والمعلومات، وتوظفها في سياقاته الشعرية المعاصرة فالشاعرة تتأثر إلى حد كبير بتلك المواقف التي يحملها الموروث، وهو أيضاً يعظم من أثره بغية الالتفات نحو الماضي الذي ينتسب إليه التراث..

على أن هذا التأثير ينبغي أن لا يكون أعمى بحيث يقوم الشاعر المعاصر بملاحقة صور الماضي وتجاربه لذاتها أي إنه سيبقى في حواراته مع الموروث في نطاق دائرة الماضي،بل عليه أن يفيد من تجاربه ليصهرها في تجربته الشعرية المعاصرة،أي إنه يخرجها من دائرة الماضي إلى دائرة ذات نطاق أوسع،حتى تأخذ بعداً إنسانياً شمولياً،وعندها يصبح التراث طاقة تعبيرية تضاف الى الطاقات النصية الأخرى،التي تفرضها القصيدة،والتي تقدمها لغتها الشعرية،ويبقى نجاح التوظيف التراثي مرهوناً بانطلاقه من صميم التجربة الشعورية للمبدع،لأنها المسؤولة عن استدعاء ما يلائم طبيعتها النفسية المعنية،أو حالتها المستشعرة،وليس لعبة لغوية تستهوي الشاعر،أو محاولة لإثبات كفاية معينة أو مقدرة لغوية واذا ما حدث هذا فإن الشاعر سيحكم على نفسه بالإخفاق الذريع وهو ما سيكشفه أو يفضحه بناؤه اللغوي،الذي يبدو عليه التكلف وضعف البناء،(لأن الشاعر الحديث وهو يصنع من حجارة الماضي تمثالاً يعبر عن روح الحاضر. فإنه يكون قد وصل من خلال هذه العلاقة مع الموروث الى مستوى الابداع) (1 )

وهذا الابداع لا يتحقق إلا من خلال رغبة ملحة تعمل على استدعاء هذا الموروث، بحيث يصبح من غير الممكن أن تحل محله أية مفردات أو عبارات معاصرة، جنار نامق شاعرة معاصرة وجدت مثل غيرها في تراث أمتها كنوزاً من الصور والأفكار والعبر، وقد حاولت توظيفها في بنائها الشعري، وقد كان أداءها متبايناً كغيرها من الشاعرات،وتعاملت مع التراث على مستويين🙁الأول) مستوى المفردة التراثية القاموسية،وقد أصبح من النادر استخدامها في حياتنا المعاصرة.(والمستوى الآخر)هو توظيف تركيبٍ أو عبارة ضمن بنائه الشعري،استوحاها من لغة القرآن الكريم، أو المأثور الأدبي الشعري ويمكن القول: إن الشاعرة كانت مكثرة في ذلك كما نرى،فقد ظلت تمارس هذا الأسلوب، وسنبدأ من توظيفها للمفردات التراثية. ففي قصيدة (يا أميري) تتناول الشاعرة لفظة (شهرزاد) نقرأ قوله:

يا أميري

دعني أحبك من أجل الحب دعني.

شهرزادك تأبى الهجر وليس الموت..

تلتزم الصمت، لا من قصة ترويها لك) (1)    

إن تكالب الهموم والأحزان على وجدان الشاعرة، جعلتها تحس بالأشياء التي حولها إحساساً آخر، يصدر من رؤية سوداوية مريرة، مما أفقدها طعم هناءة الحياة، فلم تعد ترى غير مزيد من الظلام، التي صورت لنا تلك الرؤية النفسية للشاعرة تجاه الأشياء، لتعبر عن صميم حالتها الانسانية، فهي إلى جانب دورها في رسم الصورة اللونية لهذا الليل فإنها تحركت على مستوى آخر، كشف لنا عن مشاعر الذات القلقة أي: إنها قامت بدورين (نفسي/ولوني)وبذلك نجحت في أن تكون طاقة تعبيرية في النص الحديث.

(شيد نحات بورتريت نهرا  

نحت تمثالا لفتاة متشحة بالسواد

من الثلج ذاب من حسرة شمس شتوية خجولة

في هذا الموسم الجليدي) (1)

أما على صعيد المستوى الآخر لتوظيف النصوص التراثية في ضمن بناء النص الشعري الحديث بالنسبة للشاعرة جنارنامق فقد جاء توظيف العبارة أو التركيب اللغوي محاولاً الإفادة من دلالاته ومعانيه، ومصادر الشاعرة في ذلك متعددة،أهمها القرآن الكريم،والسنة النبوية الشريفة،وأيضاً المصدرالذي يأتي بالأهمية بعد القرآن الكريم والسنة النبوية هو ديوان الشعرالعربي والكردي,على الرغم من أنها عاشت زمن الانفتاح الشعري إن جاز التعبير، وهذا واضح من خلال الاكثار من ذلك في نصوصها الشعرية عموماً، وليس الاكثار أو القلة قدحاً في شعرالشاعرة، بل إن نجاح تلك التوظيفات في المهمة التعبيرية،وتناول بعض من تلك النماذج التي وظفتها الشاعرة في قصائدها،ففي قصيدة لها توظف الشاعرة من التراث الديني،نقرأ:

(تمضي الأيام)  
ذاكرتي في أرق تنسج همومي  
أمي تهّوي بيديها الراجفتين جراحات القدر الأليمة        
يغادر أبي في الليل المقبرة) (1)

فالشاعرة هنا تصف لنا حال كنيسة قديمة في ألمانيا (كولن) حيث أن هذه الكنيسة يروى عنها أسطورة. لهذا استخدمت الشاعرة اسم الكنيسة وهو علامة في طريق الظلم الذي يسود عالم هربت منه القيم والأخلاق وأصبح غابة يسودها الحقد الأسود.

(دوم

دخلتها

كي أضيئ شمعة

لن أتعاقد مع إبليس) (1)

أن التجربة تتحقق من خلال شعور الذات بالحزن والأسى على ضياع أمل وتبدده وهو في متناول اليد، فالشعور بفقد هذا الأمل، الذي هو أساس وجود الذات وسر سعادتها، ترك لوعة في النفس كبيرة.

(فراقك ليل يلف عيوني بالضباب والعتمة والرياح،        
يشنج أناملي الغريبة.   
فراقك خريف قاس يمشط ضفائر ربيع عمري بمشط الأحزان،
لا يلبث يجعلها تتساقط. كالخريف …) (2)

تعتمد هنا الشاعرة جنارنامق في مهمتها التعبيرية على توظيفها للدراما القصصية، حيث استخدمت لغة تصويرية للمكان الذي حدثت فيه القصة من خلال وصف تلك الحادثة التي أضاعت فيها.

(في هذا الوقت المتأخر

إلى أين أمضي..

في هذه الرحلة

لن أصل أية محطة) (1)

ولغة الموروث الأدبي الشعري نجدها تطفو هي الأخرى على جسد لغة شاعرة جنارنامق التي استطاعت تشكيل صورة فنية فزاد من غنى صورها وأفكارها، وقد كانت لغتها الشعرية تراوحت بين الإيماء والخيال في التعبير حيث تقول:

(شيد نحات بورتريه نهرا  

نحت تمثالا لفتاة متشحة بالسواد

من الثلج ذاب من حسرة شمس شتوية خجولة

في هذا الموسم الجليدي) (1)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 0 انظر: زمن الشعر، ادونيس، ط/3 بيروت 1983, ص 194

2 0 حركية الابداع دراسة في الادب العربي الحديث، د. خالدة سعيد، بيروت دارالعودة، ط/2، 1982,ص 29

1 0لغة الشعر في ديوان الاخطل الصغير، رسالة الماجستير/ كلية التربيةالجامعة المستنصرية.

1 0 اخر المطاف,جنار نامق,بلا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *