د.جميل التميمي
اعتاد أن يبدأ نومه مبكرا كل ليلة، فيومه المتخم بالعمل العسكري الشاق لم يتح له فرصة الخروج من المنزل لقضاء بعض الوقت مع الأصدقاء، بل حتى الأصدقاء المقربين منه أصبحوا شحيحين في ذاكرته، ربما لانشغالهم بحياتهم، وإذا ما صادف أحدهم في طريق العمل كان يردد عبارة:” انا اعيش حياة الخفافيش” لا أرى الشمس، أخرج الى العمل ليلا وأعود ليلًا.
كانت هوايته المفضلة هي الاستماع إلى المذياع الصغير الذي لا يكاد يفارق وسادته، الحقيقة هي لم تكن هواية، بقدر كونها واقع فرضه نمط الحياة القاسية، إذ كانت كلمة الهوايات في زمن الحصار حالة من الترف بالنسبة له.
كان فراشه يتوسط غرفة صغيرة معتمة يضيؤوها مصباح صغير، جدران مهترئة، ترى في بعض زواياها رصفت بالطوب وأصبحت عارية إلا من سجادة وحيدة فيها صورة مطرزة بالحرير للإمام علي -رضي الله عنه- كانت قد اشترتها والدته تلك الصورة التي بقيت صامدة دون غيرها من مقتنيات البيت التي تعرضت للبيع في زمن الحصار.
في أحد أطراف الغرفة خزانات أبوابها لا تقفل، بداخلها صور شخصية قديمة، التقطت في أزمنة مختلفة، في الطرف الآخر من الغرفة كرسي له ثلاثة أرجل مع طاولة خشبية، وضع عليها تمثال من الرخام لأسد بابل كانت إدارة المدرسة قد أهدته له أيام الطفولة نتيجة لتفوقه ولا زال يعتز به وبجانبه دفتر صغير مهترئ وبداخله قلم رصاص يدون فيه ديونه الشهرية في القائمة أسماء ثابتة وأخرى متغيرة، مثلا أبو صادق مالك البيت الذي يسكنه يليه حمزة أبو المولّد ثم أبو فاطمة العطار وغيرهم، وأمام كل اسم المبلغ وتاريخ الدين، ومع مرور الأيام يصبح الخط شاحبًا في أسفل القائمة وكأنه يعكس شحوب وجهه القلق، وثمة باب خشبي يفتح بمزلاج من الداخل، يصدر نشيجًا، يطل مباشرة على باب البيت الخارجي، حتى انك تكاد تشعر بمشاركة الباعة الجوالين عملهم والصوت الوحيد الطاغي في الغرفة هو صوت المروحة المتدلية من سقف متصدع..
ضبط المنبه ووضعه في الجانب الأيمن من الوسادة، ووضع المذياع بالقرب من أذنه فكانت أولى الكلمات التي سمعها تلك الليلة هي:
الماضي كائن حي لا يموت لذلك من الصعب دفنه أو تعويضه…
استوقفته هذه العبارة طويلا، وأنصت إلى حديث المتحاورين، ثمة خاطرة راودته عن ماض جميل مثقل بجروح لم تندمل، وبالرغم من ذلك وجد نفسه مرهقًا مستسلما للنوم كما هو الحال في كل ليلة، إلا أنه استفاق بعد ساعات على موسيقى صادرة من المذياع القريب من أذنه، لم تكن تلك الموسيقى غريبة، لامست شيئًا في داخله فأخذ يتمتم مع نفسه، لازال وعيه مشوش ما بين اليقظة والنوم، ثم استدرك قائلا:
: يا إلهي! نعم هي (هجرتك) قالها قبل أن تنطق السيدة أم كلثوم
“هجرتك يمكن أنسى هواك
وأودع قلبك القاسي”
نعم هي نفس الأغنية التي كان يتحاشى سماعها منذ سنين بعد أن استنزفت كل عاطفته، لكن هذه المرة استغلت تعبه وضعف تركيزه في المنام، أعادت به هذه الأغنية إلى ذكريات قديمة مضى عليها أكثر من خمسة عشر عامًا.
شعرها الأسود الغامق، نظراتها الغاوية، كيف كانت عيناه طوال الوقت تتجه إليها كما تتجه زهرة عباد الشمس إلى الشمس، لم يكن بوسعه أن يفصح عن دواخله عندما كان يراها تجلس بالقرب منه، فبحكم نظام الدراسة، كان يترتب على الطلاب الجلوس وفق الأحرف الأبجدية، لذلك كانت الحروف شريكة في صنع حكاية ياسر وياسمين..
واستمر شريط الذكريات يرافق كل مقطع في الأغنية
“غصبت روحي على الهجران
وأنت هواك يجري بدمي
وفضلت أفكر بالنسيان
لما بقى النسيان همي”
: تذكر أول عبارة غزل تجرأ على البوح بها بعد أول لحظة ارتباك أمامها قائلا
هل تعلمين بأن العيون نوافذ القلب؟
أجابته بابتسامة خجولة بعد أن شاهدت سقوط القلم من يده:
ليست العيون فقط، بل الأصابع أيضا!
واستمرت أفكاره تسابق صوت أم كلثوم
“وقلت أعيش من غير ذكرى
تخلي قلبي يحن اليك
ما فضلش عندي ولا فكرة
غير إني أنسى أفكر فيك”
سافر بخياله إلى تلك الأيام والليالي المتقلبة، ما بين ابتسامات تلمع وعيون تفيض دمعًا وأسًى
يا ترى بعد هذه السنين الطويلة من كان السبب هو أم هي؟
قفز إلى مخيلته سؤال:
هل يستحق الهجر وخسائره أن يدان أحد به؟
استمرت عواصف الأسئلة تضرب مخيلته، وفجأة انتبه إلى صوت المنبه، نظر إلى دفتر الديون القريب من رأسه، تأمله طويلا، ثم أخرج القلم الذي بداخله، نظر إلى قائمة الديون لهذا الشهر، كتب في أخر القائمة بخط غامق تحت خانة الدائنين..
ياسر وياسمين
ثم كتب تحت خانة المبلغ والتاريخ هذه العبارة:
من السهل أن تكون مدينا لأحد لأن بمقدورك تسديد الدين له، لكن من الصعب أن يكون الزمن مدينا لك فلن يكون بمقدورك استعادة دين الأيام منه.
ثم نهض من فراشه بخطوات متثاقلة، ليبدأ رحلة يوم عمل جديد شاق.