أ.رؤوف جنيدي  

على وقع أقدام حصاني الأحمر الذي كان يمرح في خيالي ومِن فوق صهوته التي كان يمتطيها فارس هُمام. وعلى دقات قلب عروسٍ حلوة المذاق مبتسمة في يد أختي. كانت تحملنا أقدامٌ غضةٌ عفيفة. لنطوف دروب بلدتنا وأزقتها خلف عم عبده بائع حلوى المولد. كان عم عبده يدفع أمامه عربةً خشبيةً متهالكة. تحف قدماه من خلفها حفيفاً رتيباً هادئ الخطى وتصدر عجلاتُها صريراً متقطعاً من أروع سيمفونيات الماضي كان يتراقص عليها حصاني وتتمايل عليها العروس البيضاء التي كانت تضمها شقيقتي الصغرى بين أحضانها.

وحيناً فحيناً كان عم عبده يتوقف بعربته قليلاً. ثم يرفع كفيه الى خلف أذنيه وينادى بصوت شجي طويل (حلاوة زمااااااان).. ملوحاً بوجهه يمينا ويساراً ليوزع نداءه على كل أهل البلدة. فنلتف نحن من حولِه بنين وبنات مرددين من خلفه في كورالٍ طفولي بريء (عروسة وحصااااااان). ومع كل وقفةٍ من وقفات عم عبده. يسرع إلى بيته كل من نفدت نقودُه ليعود بقرشٍ أو قرشين آخرين ليشتري واحداً من تلك الطراطير زاهية الألوان التي رصها عم عبده فوق العربة رقصات مغريات. يداعب النسيم قصاصاتها الورقية المزخرفة. فتصدر شخللات تشاغل عيوننا وأذاننا البريئة وتتراقص على هزاتها قلوبُناً الخضراء.

كبر الولد منا وصار رجلاً. تزوج عروساً غير التي كانت في يد أخته. تلك العروس التي كنا نراها ملء السمع والبصر وقت أن كنا نرى بعيونٍ قانعةٍ غير طامعة. بل وأحلاهن مذاقاً إن سمحت لي أختي بتذوق كِسرةٍ منها … وكبرت البنت وصارت زوجة وما حظيت بفارس أحلامها الذي كان يمتطى حصان أخيها مرتدياً زي فارسٍ مِقدام ممسكاً بزمام حصانه في إباءٍ وشمم. ذلك الفارس الذي تفتحت أنوثتها على طيفه وراحت تتأمله. فكم كرَّ وفرَّ في ميدان قلبها وفي ساحة وجدانها.

صار الولد أباً وما عادت كل المزاقات حلوة. فقد جف حلقه جفاف أيام جدب لا تعرف اللين وابتلعت جسدَه طاحونة الحياة دون رحمةٍ أو هوادة. وأخفت عنه الهموم تلك العروس التي كان يظن أنها ستبقى قطعة حلوى مدى الحياة. وصارت البنت أماً مثقلةً ذهب عنها فارس الأحلام الذي رسمته الطفولةُ يوماً في عينيها. وحل مكانه زوجٌ كادحٌ يسعى على قوت عياله ليل نهار بعد أن أبلاه الزمن وأذرى به الدهر. فما عاد ممشوق القوام كما كان فقد انحنى ظهرُه وألبسته الدنيا ثوب الشقاء والمعاناة…

كبرنا وبقي هذا الطفل لم يكبر. بقي في صدري يعاديني. يقاضيني. يسائلني في غضبٍ ودهشة لماذا أخرجته من موكب عم عبده وجئت به هذا المعترك؟  رفض أن يبقى معي. سحب يده من يدي واستدار عائداً للخلف. عاد يتخطى بسيقانه الصغيرة كل حماقات الدنيا ورعونة أهلها. عاد مغمضًا عينيه عن بريقها الزائف. عاد يصم أذنيه عن ضجيجها الصاخب. عاد وكله أمل أن يجد مع أبيه قرشاَ أو قرشين يشترى بهما طرطوراً مزيناً أسوةً برفاقه.

عاد يتلفت يميناً ويساراً باحثاً عن أخته. وجدها فأمسك بيدها. سألته في براءةٍ: أين حصانك وأين عروستي؟ قال: في حارتنا. في شارعنا. حيث كان يقف عم عبده. عدنا مسرعَيْن إلى الماضي. ممسكاً بزمام حصاني الأحمر وتمسك أختي بعروسها البيضاء. لنلحق من جديد بموكب عم عبده بائع الحلوى لنطوف معه دروب بلدتنا وأزقتها. مصفقين بكفوفٍ رقيقةٍ كأوراق الشجر. مرددين على رجع صوتِه وبألسنةٍ بريئة. أنشودة الأمل وأغنية الزمن الجميل لحلوى المولد النبوي الشريف..

حلاوة زمان …… عروسة وحصان..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *