د.شادي صلاح محمود
العمل الجماعي لا يُكتب له النجاح إلا إذا تحقّقت الثقة بين أفراده القائمين به، لأنّ الثقة تؤدّي إلى تضافر الجهود وتطوير العمل والدفع به نحو غاياته المنشودة، ومع سقوط الثقة تسقط جميع الأشياء التي بنيت فوقها، فغياب الثقة والتوجّس من الآخر يُفقد الجماعةَ قوتها، ويجعلها عُرضة للتآكل من الداخل، وفريسة للوقوع في شَرَك سوء الظّن بالآخر وشيطنته، والتشكيك بأخلاقه، واتهامه بكل أنواع الشرور، فإذا فُقدت الثقة سرعان ما يُحكم على أي فكرة أو مشروع يطرحه فرد أو جماعة بأنه ليس عن حسن نية، وأن وراءه هدفًا خبيثًا، وأن وراء الأَكَمَة ما وراءها، وأنّ هناك من يوجّه هؤلاء للترويج لهذه الفكرة أو المشروع، أو أن هناك مؤامرة كونية أو ثورة مضادة، فتبدأ شيطنة هذه الأفكار والمشاريع، وعدم الأخذ بها أو مناقشتها، ومن أوضح صور غياب الثقة في التاريخ صورة فرعون ومن معه من السحرة الذين قالوا لموسى: (أَجِئۡتَنَا لِتُخۡرِجَنَا مِنۡ أَرۡضِنَا بِسِحۡرِكَ يَٰمُوسَى) [طه: 57]
وإذا كان غياب الثقة الدافع الأول لرفض أي طرح آخر مختلف، فإن ثمة دوافع أخرى تكمن وراء ذلك؛ بعضها عن حسن نية،حرصًا على المكتسبات العامة التي تحقّقت، وخوفًا من خسارتها مع الرؤية الجديدة المطروحة، فالمحافظة على المكتسبات المتحققة خيرٌ من تجربة جديدة قد تُفقدنا هذه المكتسبات، وأحيانًا يكون الرفض عن سوء نيّة؛ فأصحاب المصالح الشخصية المنتفعون من الوضع القائم والواقع المعيش يخشون من أي تغيير يُطرح، لأنه قد يؤدي إلى فقدانهم المنافعَ الشخصية، ويكون على خلاف ما تهوى أنفسهم، فهم يضعون مصالحهم فوق كل شيء ويقدّمونها على كل شيء، وكلُ طرح مختلف يعدّونه مغامرة وحماقة ينبغي أن يُضرَب به عُرْضُ الحائط.
ونقف عند الدافع الأول لنقول: إن السوريين يعانون من أزمة غياب الثقة فيما بينهم مذ قامت الثورة السورية إلى يومنا هذا، وهذا ما أدّى إلى عدم نجاح المشاريع الجماعية التي أعلنوا عنها مع كثرتها، وباء جميعها بالإخفاق، وذلك لفقدان عامل الثقة الذي زاد يومًا بعد يوم بين مجموعات المعارضة السورية الرسمية العسكرية والسياسية والأكاديمية، وكذلك على المستوى المعارضة الشعبية؛ فمعظم فصائل المعارضة لا يثق بعضها ببعض، وإن وُجدت الثقةُ يومًا غابت أيامًا، وما تحقّق من مكتسبات ثورية في يوم ثقة سرعان ما ذهبت عندما انعدمت الثقة فيما بينهم، وكذلك المعارضة السياسية الرسمية (الائتلاف) وغير الرسمية (الأحزاب والتكتلات) لا يثق أعضاؤها بعضهم ببعض سواء فيما بينهم أو مع الآخر، فكلّ عمل سياسي تقوم به مجموعة يَنظر إليه الائتلاف بريبة وأنه ثورة مضادة، وأن وراءه أجندات خارجية تدعمه وتقف وراءه، وكذلك الأحزاب السياسية الناشئة أخفقت حتى الآن في إنشاء جسم سياسي منظّم، أو جبهة أحزاب وطنية، مع وجود محاولات جادة في سبيل ذلك، ولكن ما وقف عائقًا أمام نجاح هذه المحاولات هو ضعف الثقة بين القائمين على هذه التكتلات السياسية، فكل حزب لا يثق إلا بحزبه، ويتوجّس خيفة من الأحزاب الأخرى، ويشكّ في توجّهها وبرنامجها، وفي رغبتها بالتواصل والتحالف، وهذا أدّى إلى عدم ترجمة المحاولات إلى تحالف داخلي سياسي منظّم نحن أحوج إليه في هذه المرحلة الخطيرة من عمر الثورة السورية.
وأما على المستوى الأكاديمي، فنرى الأكاديميين لا يثق بعضهم ببعض، فإذا طرح أحدهم نقدًا، أو وجّه ملاحظة، أو طالب بمراجعة، أو قدّم نصيحة، أو دعا إلى إصلاح، بدأت سهام التشكيك تنهال عليه، متهمين له بإثارة المشاكل، والإساءة إلى الجامعة، وأنه يسعى إلى إيقاف المسيرة الناجحة لهذا أو ذاك، وأنه يسعى لتحقيق مصلحته الشخصية من وراء مطالبته بالإصلاح، وأنه يدسّ السمّ في العسل.. مع أن كلّ ما يريده هو الإصلاح لتكون الجامعة أكبر، ولكنها الثقة التي انعدمت، فصار يُظَنّ أنه يريد إسقاط هذه المؤسسة الثورية، وهو في الحقيقة يريد لها العلو والبقاء.
وأما على المستوى الشعبي، فقد انعدمت ثقة الناس بالقائمين على المؤسسات الثورية، فثقتهم بقيم العدالة والحق عند هؤلاء قد أُصيب بمقتل، إذ لم يروا منهم همًّا واهتمامًا بهم، بل رأوا أن حقوقهم وأمنهم آخر ما يهمهم، وأن ما يشغلهم هو مصالحهم التي هي فوق مصلحة الناس ومقدَّمة عليها، وأن مؤسسات المعارضة لا تقل فسادًا عن مؤسسات النظام، وهنا الطامة الكبرى عندما يفقد الناس الثقة بقيادتهم، وما يحدث اليوم في الداخل السوري المحرر ما هو إلا من تداعيات فقد الثقة بين الناس والمسؤولين، ولا ننسى أن أحد أهم أسباب الثورة السورية هو عدم ثقة الناس بالنظام الحاكم، فانفجرت، وستنفجر على كل سلطة لا تسعى جاهدة لكسب ثقة الناس بالعمل:
حذارِ؛ فتحْتَ الرّمادِ اللهيبُ *** ومَن يزرعِ الشّوكَ يَجْنِ الجراحْ
ومن المعروف في السياسة أنّ الأنظمة الشمولية تسعى إلى ترسيخ عدم الثقة بين الناس، لأن الشعوب التي لا تشعر بالثقة يسهل اختراقها، فالشخصية غير الواثقة بفرد ما أو جماعة، تُخدَع بسهولة من قبل الفاسدين الذين يشككون بكل فكرة صائبة، ويشيطنون كل إنسان مصلِح، ويجدون في عديم الثقة أرضًا خصبة لقبول افتراءاتهم.
إن أية ثورة في العالم لا يمكن أن تستمر وتنتصر وتؤتي ثمارها إلا باستمرار الثقة بين أفرادها، بل لا يقوم مجتمع إلا بثقة بعضه ببعض، بل لا تقوم أسرة إلا إذا توفّرت الثقة بين أفرادها.
وكما أن غياب الثقة خطر كبير، كذلك إن منح الثقة لمن لا يستحقها خطر أكبر، فالأصل أن يمنح الإنسان ثقته أولًا، فإذا ثبت عنده أن الموثوق به ليس بأهل لها، سحبها منه، فالخطورة تكمن في أمرين؛ في سحب الثقة ابتداء، أو في إبقائها في كل الأحوال، وإن معيار بقاء الثقة وانقطاعها هو الحق والعدل والصدق، فكل من ثبتت له هذه الصفات فهو أهل للثقة، وكل من تجرّد منها فهو لا يستحق الثقة.
إن الثقافة السياسية التي ترافق الثورات، وتساندها، هي ثقافة المبادرة، والثقة بالآخر، وإذا ثبت لدينا أن ثورتنا السورية تعاني من غياب الثقة بين معظم أبنائها المنتمين إليها، فعلينا نحن الأحزاب والتكتلات السياسية والكفاءات الأكاديمية والواجهات المجتمعية أن نعزّز ثقة بعضنا ببعض، وأن نجتمع على كلمة سواء، وأن نسعى إلى تصدير قدوات حقيقية تقود المجتمع، همُّها الناس، والمصلحة العامة، تعمل بأمانة ، وتُقيم العدالة، حينئذٍ تعود الثقة، وتتحقق القوة، وتنتصر الثورة.