د.شادي صلاح محمود
عندما نصف المجتمع وما فيه من مؤسسات، وعلاقات إنسانية، إما أن ننطلق من الواقع فنصف المجتمع وصفًا يحاكي صورته الحقيقية من دون تجميل، وهذا ما يسمى بالصدق الواقعي، أو ننطلق من الخيال فنصف الواقع وصفًا يوافق صورته المتخيَّلة في الذهن، والخيال لا يحافظ على الدرجة نفسها التي عليها الشيء في الواقع، وإنما يبالغ فيها، وإن المبالغة في الوصف من البلاغة؛ إذ نبالغ في جمال إنسان فنصفه بالقمر، ونبالغ في شجاعته، فنصفه بالأسد، والغرض من هذه المبالغة إظهار المشبه أحسن مما هو عليه في الواقع، وأنْ لا عيب فيه، فإن وُجد الرضا والحبّ تحسّنت صورة الواقع في الخيال وتزينت، وإن حضر السخط والكره ساءت صورة الواقع وتشوّهت، وهذا ما يدعى بالصدق الفني، ويعني أن الإنسان ينطلق من مشاعره في وصف ما حوله ومن حوله، وهو يرى الأشياء بعين قلبه، فهو صادق في وصفه ولو خالف الواقع؛ لأنه يعتقد بما يصف ويؤمن به، ويرى أنه الحقيقة، وأن ما يخالفه وَهْم وباطل، وأوضحُ مثال على ذلك مجنون ليلى الذي كان يتغنى بجمال ليلى وحسنها، بل كان يراها أجمل النساء، ولا يرى فيها عيبًا واحدًا، مع أن ليلى في الواقع ليست كذلك، بل وُصفت بأنها شديدة السواد وفيها عيوب لا تخفى على ناظر، فهل نحكم على مجنونها بالكذب لأنه خالف الواقع في وصفها؟ لا؛ لأنه صادق فنيًّا، فهو انطلق في وصفها من قلبه ومشاعره، وكان يراها كما وصف، ولو شققنا على قلبه لرأينا فيه ليلى جميلة كما هي على لسانه، فوافق قلبه لسانه فصدق فنيًّا، ومن الظلم أن نحكم عليه من خلال الواقع فنصفه كاذبًا، ولذلك نراعي حال المحبين في الحكم على صدقهم، فالأم تحبّ ولدها فتراه الأجمل، وتحب ابنتها فتراها الحُسنى، وكما يقال في المثل: (القرد بعين أمه غزال)، وقد وصف شاعر هذا التفاوت في وصف من حولنا بعين الرضا والسخط:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة *** وعين السّخط تبدي المساوئا
وشاعر آخر يذكر أثر الحب والبغض في وصف ما حولنا:
أحبب فيغدو الكوخ قصرًا نيّرًا *** أبغض فيمسي العالم سجنًا مظلمًا
وإننا لنحترم الإنسان الذي يتجلى في كلامه الصدق الواقعي أو الصدق الفني، ولا نحترم الذي تفوح من كلامه رائحة الكذب الواقعي أو الفني؛ فمن يصف الواقع على خلاف ما هو عليه فهو كاذب، كمن يصف الدواء بالحلاوة وهو مر، وكذلك من يدّعي شيئًا بلسانه وقلبه ينكره فهو كاذب، كالمنافقين الذين {قَالُواْ نَشۡهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُۥ وَٱللَّهُ يَشۡهَدُ إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ لَكَٰذِبُونَ } فهم {يَقُولُونَ بِأَفۡوَٰهِهِم مَّا لَيۡسَ فِي قُلُوبِهِمۡۚ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا يَكۡتُمُونَ}
واليوم في مجتمعنا الذي نعيش فيه نرى أن الناس خاصة المسؤولين عن المؤسسات وأصحاب القرار فيها لا يصدقون واقعًا ولا فنًّا، فديدنهم الكذب الواقعي والفني، وإليك أمثلة من كذبهم هذا:
يخرج محلل سياسي يُسأل عن واقع الناس الذي يعيشونه، فيقول: الناس ينعمون بالأمن والأمان فالظعينة تسير لا تخشى إلا الله والذئب على غنمها.. فكلامه واقعيًّا كذب؛ لأن الواقع على خلاف ذلك، وكذلك كلامه فنيًّا كاذب؛ لأنه لا يؤمن قلبيًّا بما يقول.
ويخرج علينا مسؤول ذو منصب رفيع يقول للناس: نحن في خدمة الشعب، ونسعى لتحقيق مصلحته، ولن نتنازل عن كرامته، ونفاوض على حقوقه.. وهو كاذب واقعًا في قوله، فهو في خدمة نفسه، وهمُّه تحقيق مصلحته، ومستعد للتنازل عن كرامة الناس والتفاوض على حقوقهم، وكذلك كاذب فنيًّا؛ لأنه نفسه تحدّثه بأنك يا هذا كاذب.
ويخرج مسؤول عن مؤسسة تعليمية ليحدثنا عن جودة التعليم في مؤسسته، واستقطابه أفضل الكفاءات من ذوي الشهادات المعترف بها عالميًّا، وتمكّن الطلاب في العلوم النافعة، وأن بإمكانهم منافسة طلاب أعرق الجامعات العالمية.. وهو في الحقيقة كاذب؛ فلا جودة تعليم في مؤسسته، ولا كفاءات حقيقية معتبَرَة، ولا تمكين للطلاب ، وهو يعلم أنه يكذب.
ويخرج مسؤول في مؤسسة دينية ليحدثنا عن تطبيق القوانين وإقامة العدالة الاجتماعية وتحكيم الشريعة الإسلامية، وكلامه خلاف الواقع؛ فلا قوانين تطبّق، ولا عدالة اجتماعية أُقيمت، ولا شريعة إسلامية حُكّمت، وهو عليم بذلك.
والسؤال، لماذا يتعمّد هؤلاء الكذب الواقعي والفني ولا يعترفون بالحقيقة مع أنها حاضرة في عقولهم؟ لماذا يزوِّرون الواقع ويجمّلونه؟
والجواب، لأن الواقع الاجتماعي غير جميل، ووصفه كما هو إعلانٌ عن إخفاق المسؤولين عنه، مما يدفع الشعب إلى الانفجار؛ فالاعتراف بغياب الأمن والأمان ووجود الفوضى في كل مكان، دليل على الفلتان الأمني، والإقرار باستغلال الشعب وركوبه لتحقيق مصالح شخصية مدعاة للانفجار، والإعلان عن غياب جودة التعليم في الجامعات، وهزالة المخرجات، وعدم وجود عمل للخريجين، وعدم السعي لتحقيق متطلبات الاعتراف الدولي، كل هذا يدفع الطلاب إلى هجر هذه الجامعات أو محاسبة المسؤولين عليها، وكذلك الإفصاح عن غياب القانون والعدالة والشريعة، وأن هذه المسميات أضحت شعارات لا ممارسات، يجعل الناس يثورون للإطاحة بأصحاب الشعارات، فكان لا بد لهؤلاء جميعًا من إخفاء الحقيقة لكي لا يظهر إخفاقهم وفسادهم فيحاسبوا.
إن الحلّ لا يكون بالهروب من الواقع وتجميله ووصفه على خلاف ما هو عليه، بل بالوقوف على حقيقته ولو كانت مرّة؛ فالحقيقة المرة خير من الوهم المريح، وإنّ تجاهل الواقع فيه استخفاف بالناس واستهزاء بهم، فهم يعلمون الحقيقة، وسيسقط من عينهم كل من لا يقارب واقعهم ويحاكيه، فإذا أردنا أن نكسب ثقة الشعب، فعلينا أن نكون أمينين في نقل واقعهم ولو كان قبيحًا، وبعد ذلك نسعى إلى جعل هذا الواقع جميلًا من خلال إصلاح ما أفسده الدهر، وإزالة كل مظاهر القبح والسوء، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة؛ فقد بُعث في مجتمع جاهلي يغلب عليه القبح، وتغيب عنه العدالة، وتُعطَّل فيه القوانين، وتهان فيه الإنسانية، ولم يتجاهل هذه الحقيقة المرة، بل أقرّ بها وأعلن عنها، وسعى ليخرج الناس منها؛ من الظلمات إلى النور، ومن الظلم إلى العدل، ومن العبودية إلى الحرية، وما زلنا نحن السوريين نتوق إلى النور والعدل والحرية، و لن نتنازل عن هذه الغايات الشريفة، وإننا نعي الحقيقة المرة مهما أخفاها الكاذبون الذين تصدّروا المشهد، ومهما حاولوا خداعنا بالوهم المريح، وسنسعى إلى جعل الواقع جميلًا بكل ما أوتينا من قوة:
إذا الشعب يومًا أراد الحياة *** فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بدّ لليل أن ينجلي *** ولا بدّ للقيد أن ينكسر