د.شادي صلاح محمود
أكاديمي سوري وناقد سياسي
سُمّي الفاعل في العربية فاعلًا؛ لأنه يتصف بالثبات والفاعلية والتأثير والحضور، وهذه الصفات تدل على قوّته، ولذلك استحق التقدّم والصدارة والرّفع، وصار من أركان الجملة التي لا تتم إلا به، لكونه مسندًا إليه القيامُ بالفعل، بل يحق له – لكونه فاعلًا قويًّا- أن يكون مرفوعًا، وأن يسبق الفعل ليكون مبتدأ، وأما المفعول به، فهو فضْلَة في الجملة يمكن الاستغناء عنها، أو استبدال فَضَلات أخرى به، كالمفعول فيه، فهو متغيِّر لا ثابت، متأثّر لا مؤثّر، يقع عليه فعل الفاعل، وهو في حالة غياب عن صنع الفعل، وهذا كله يدل على ضعفه، فجُعل منصوبًا من النّصَب والتعب، ووُصف بما هو أهل له، مفعولًا به وفضلة.
وهذا هو حال أفراد مجتمعنا الإنساني، فالإنسان فيه إما أن يكون فاعلًا ثابتًا مؤثّرًا حاضرًا، وإما مفعولًا به متغيِّرًا متأثرًا غائبًا، وهذا الوصف الفاعل أو المفعول به لا يخرج عن إرادة الله وقضائه على الإنسان، ولكن الاستعداد الأوّلي للإنسان الفيصل في هذه الكتابة الإلهية؛ فالله وهب الإنسان ما يجعله فاعلًا مؤثِّرًا، كالعقل والحكمة والقوّة، وأراد منا نحن البشر أن نكون فاعلين في المجتمع، مؤثرين فيه، فإذا استثمر الإنسان تلك الهبات، وعمل على إنجاز الإرادة الإلهية فيه كان فاعلًا ، وإن عطّلها، وخرج عن مراد الله في خلقه، صار مفعولًا به.
فكيف يصبح الإنسان فاعلًا؟ وكيف يكون مفعولًا به؟ وما محدّدات الفاعل والمفعول به؟ وما صفات كل منهما؟
- القرار والإقرار:
فالفاعل ذو قرار، يُفكّر خارج الصندوق، يناقش، يقترح، يوافق إن رأى الأمر مناسبًا يوافق الحقّ، ويتحفّظ، بل يعترض إذا وجد الأمر مخالفًا الحقَّ، ولا يقبل بحال من الأحوال أن يُفرَض عليه أمر مخالفٌ لمعياره هذا، أو أن يُملى عليه شيء ليس عدلًا، على حين نرى المفعول به لا يفكّر، وإن فكّر فتفكيره داخل الصندوق، أي بما يؤذن له فيه التفكير، ملتزمًا بحدوده التي ضُربت له، فلا يخرج عنها، والمفعول به لا يناقش، لا يقترح، لا يبدي رأيًا، لا يتحفّظ على آراء من حوله، بَلهَ الاعتراض عليها!! وربما يحسّ بأن الأمر يخالف الحقّ، ويخرق القانون، ويبعج العدالة، ولكنه يرضى بذلك، ويُقرّه مقابل منفعة شخصية يحققها، ككرسي، أو مال…، ففي سبيل تلك المنفعة الحقيرة مستعدّ أن يجعل من نفسه مفعولًا به، بل مفعولًا فيه إن اقتضت الحاجة!
- الإرادة والعجز:
فالفاعل يمتلك إرادة التغيير، وعزيمة التطوير، فلذلك نراه لا يسبح مع التيار، فالسمك الميت هو الذي يسبح معه، وأما الحيّ فيسبح خلافه، لا رغبةً في المخالفة، ولا حبًّا في التعب، فالسباحة عكس التيار شاقة، ولكن هذا حال الدنيا تعب في تعب، ولا راحة لمؤمن إلا بلقاء ربّه، وحُفّت الجنة بالمكاره، وحفّت النار بالشهوات، وهذا يدل على أن الإنسان في الدنيا عليه ألا يسبح مع التيار، أي مع الأموات، فهم ينجرفون معه، عليه ألا يسبح مع التيار، أي مع العاجزين والمستضعفين، فهذا حالهم لا حول لهم ولا قوة للسباحة عكسه.
وقد يقول قائل: أليس في قول النبي عليه الصلاة والسلام: « يد الله مع الجماعة.. » دليل على عدم مخالفة التيار الذي هو الجماعة؟ أقول: إن الجماعة هنا الموصوفة بأن يد الله معها هي الجماعة التي على الحق، وأما التي على الباطل فيد الشيطان عليها، تأخذ بها إلى الجحيم. وقد يقول آخر: قال النبي ﷺ :« لا تجتمع أمتي على ضلالة»
أقول: الأمّة هنا لا يعني الكثرة؛ فمعيار الأمة هو الحق، فإذا افتقدت الأكثرية لهذا المعيار فهي على ضلالة، وإذا حقّقته الأقليّة فهي على حقّ، وتوصَف بأنها أمّة، كما وُصف إبراهيم عليه السلام: (إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ كَانَ أُمَّةٗ قَانِتٗا لِّلَّهِ حَنِيفٗا) [النحل: 120] .
وأما المفعول به، فهو يسبح مع التيار، مع الأموات، مع الضعفاء، وشعاره في الحياة: (اسبح مع التيار واكسب الدولار).
- النقد والتسليم:
فالفاعل ناقدٌ، يوصّف ما يجري حوله بعين الحقيقة، ثم يحلّل ذلك بعين الناقد الذي يرى المحاسن فيثني عليها ويمدحها، ويرى المساوئ، فيعيبها ويسعى لتهذيبها لا تزيينها، وإصلاحها لا ترقيعها. إنه يؤمن أن النقد هو الذي يصحح الأخطاء، ويكشف العيوب، ويقضي على الفساد، ويهابه العباد، وتصلح به البلاد، ويخافه أهل الاستبداد.
إنه يؤمن أن النقد يصنع الرجال، وتزول به الجبال، وتُشدّ به الحبال، ويُلجم به أشباه الرجال، ويُفضح به أهل الضلال.
وأما المفعول به، فهو سلّم زمام أموره إلى الآخرين، ورضي أن يضعوا لجامًا على فمه، ليركبوه، منقادًا إلى حيث أرادوا، وإن ذهبوا به إلى الهاوية! إنه لا يجرؤ على الانتقاد، وإن قيل له: اللبن أخضر، قال نعم، وإن قالوا: له: جمع اثنين واثنين يساوي خمسة، أقرّ! إنه لا ينظر إلى ما حوله بعين الحقيقة، وإلى الناس بعين الإنصاف، بل بعين من يعلفه ويستعبده، ولذلك نرى هذا الصنف المسلِّم أمرَه لسيّده متلوِّنًا براغماتيًا ديناميكيًا؛ يتغير ولاؤه بحسب ما تقتضيه مصلحته الشخصية، ويقدّم فروض الطاعة لمن يُشبع غريزته الحيوانية وما تهواه نفسه، فنراه يتنقّل من حضن إلى حضن، ومن سيّد إلى سيّد! لا مبدأ له في الحياة، مبدؤه الوحيد: (إللي بجوَّز إمي بقلو عمّي).
- الثبات والتغيّر:
فالفاعل ثابت لا يتغيّر، ثابت في مواقف الحق، ثابت في مبادئ الإنسانية، ثابت في القيم الأخلاقية، معياره في تقييم الأمور والأشخاص هو الحق والعدل والصدق، فلا يتأثر بكلام حاقد لا ينصف الآخرين، ولا بكلام منتفع لا يقيم وزنًا للحق، بل يُقَيِّم الناس من خلال أعمالهم وسلوكهم، فيضعها على ميزان الحق، ثم يحكم عليهم وعليها، ضاربًا بكلام الحاقدين والمنتفعين عُرضَ الحائط.
وأما المفعول به، فهو متغيِّر على الدوام، متحوِّل من حال إلى حال، فتارة تراه هنا، وتارة هناك، وكثيرًا ما تراه هنا وهناك في الوقت نفسه! إنه لا يثبت على موقف يأخذه من شخص أو أمر، فتجده يهجو إنسانًا ما، فإذا رمى له عظمة، يلهث وراءه مادحًا له، سيالًا لعابه إذا رآه، جاعلًا مساوئه محاسن، ومعايبه مفاتن.
- الإبداع والإتباع:
فمن صفات الفاعل أنه مبدِع، يأتي بجديد، يضيف إلى ما هو قديم، يصنع الفرق، ويُحدث التغيير، يطوِّر، يعيد قراءة ما حوله قراءة ثانية، يعيد فهم النصوص حمالة الأوجه والقابلة لتعدّد القراءات، على حين نرى أن المفعول به جامد، لا جديد لديه، ولا اجتهاد عنده، ولا قراءة ثانية، إنه تقليدي إتباعي، يحفظ ما يُملى عليه بحرفيّته، ولا يخرج عن تفسير الآخرين له، ويُنكر على المجتهدين اجتهادهم الذي لم يأت به من سبقهم.
- الاجتهاد والكسل:
فالفاعل مجتهد لا يعرف الكسل، وقد يضعف أحيانًا، قد يصاب، قد يُبتلى، قد يمرض، ولكنه لا يستسلم، بل ينهض من جديد، يسعى من جديد، يحاول من جديد، فهو لا ينهزم، ولا ييأس، ولا يموت، وأما المفعول به، فسرعان ما ينهزم، وينعزل، سرعان ما يعلن ساعة رحيله، ودنو أجله، ووقت حتفه، لا نجد له عزمًا، ولا همّة، ولا همًّا.
– وبعد معاينة حال معظم المجتمعات، وملاحظة أحوالها، تبيّن لي أن الإنسان الفاعل فيها قليل، وأن المفعول به، أو فيه، كثير كثير!! ويعود ذلك إلى سببين رئيسين:
- ضريبة الفاعلية:
فهناك ضريبة سيدفعها من أراد أن يكون فاعلًا ذا قرار، وإرادة، ونقد، وثبات، وإبداع، واجتهاد، وهي خسارته للامتيازات التي يمنحها الفراعنة المستبدون لمن رضي أن يكون مفعولًا به وفيه، ولن يحظ الفاعل الموصوف بما سبق بأي امتياز، بل سيجرّده المستبدون من حقوقه، ويغيّبونه عن الواجهة؛ فهم لا يتحمّلون أن يروا إنسانًا فاعلًا سيّد نفسه، لا يتبعهم في مذهبهم وأوهامهم وضلالهم، بل يعاقبون من يتجرّأ على قول الحقيقة التي تخالف هواهم، بالإقصاء، أو الخطف، أو الأسر، أو القتل.
- رفاهية المفعولية:
فهناك كثير من العطايا تقدّم للمفعول به، وكثير من المغريات تُحفِّز الناس على أن يكونوا مفعولًا بهم، بل فيهم!!
ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذين السببين اللذين يعتمدهما الفراعنة المستبدّون في جعل الناس مفعولًا بهم وفيهم، وذلك في قوله تعالى حكاية عن فرعون:
(فَٱسۡتَخَفَّ قَوۡمَهُۥ فَأَطَاعُوهُۚ) [الزخرف: 54]، والاستخفاف هنا طلبُ الخِفَّة، أي أن يكونوا مفعولًا بهم، مطيعين له، فكانت سبيله إلى ذلك بالترغيب والترهيب؛ فهو يعلم أن الترغيب بالعطايا يستخفّ الإنسان؛ أي يجعله في حالة من الخِفّة والنشوة تصيبه بفعل إسكار العطايا، حتى يكاد يطير من الخفّة التي تنتابه، وكذلك الترهيب بالعقاب يستخفّه؛ أي يقضّ مضجعه، ويقلق نومه، ويطيش عقله، ويُفقده اتزانه، و يُذهب اطمئنانه، ويصير قلقًا مضطربًا، لا قَرار له، يكاد يهيم على وجهه كمن يتخبّطه الشيطان من المسّ.
وما يزال الفراعنة في كل زمان ومكان يستخّفون الناس، بالترغيب أولًا، فإن لم يستخفّهم الترغيب لجؤوا إلى استخفاف الترهيب، وهذا ما عهدناه في نظام الأسد، إذ استخفّ كثيرين فأطاعوه على غير هدًى.
ولكن هل الناس كلّهم يمكن استخفافهم للطاعة؟
الجواب لا؛ فهناك رجال عصيّون على الاستخفاف، ثِقال كالجبال، لا يستخفهم مال، ولا جِمال ولا جَمال، ثِقال ولو التفّت حول أعناقهم الحِبال، تنظر إليهم، وقد نادى للصلاة عليهم بلال، فترى أنك أمام الجمال والجلال! وسورية اليوم بحاجة إلى رجال، لا إلى أشباه رجال!!!