د.شادي صلاح محمود

قيادي في الحركة الوطنية السورية

أهم عامل من عوامل بناء الدولة واستمرارها، وقوّتها، هو تماسك النسيج الاجتماعي، ونعني به استقرار المجتمع واطمئنانه، من خلال ترابطه وتداخل بعضه في بعض، فترى المجتمع يأخذ بعضه بأعناق بعض، كالجسد الواحد، وكالبنيان المرصوص، ومثل هذا المجتمع عصي على الانهيار مهما عصفت به العواصف، وزلزلته الزلازل، وإن بقاءه قائمًا متماسكًا يجعل الدولة قوية مطمئنة؛ فلا شيء أدعى إلى قلقة الدول خاصة  حديثة العهد منها، من غياب تماسك المجتمع، فهو مؤذن بزوالها، لأن من مظاهره الخطيرة وقوع الفتنة بين مكونات المجتمع فتمزّقه، وحدوث حرب داخلية بين تشكيلاته فتفرّقه، والحرب الداخلية أخطر على الدولة من الحرب الخارجية، إذ إن الحرب الخارجية تدعو أبناء الدولة إلى التوحّد والتماسك والوقوف في وجه عدوّها صفًا لإبعاد خطره، وأما الحرب الداخلية، فهي تجعل أبناء الدولة متفرّقين، متنازعين، يأكل بعضهم بعضًا، وهذا ما يؤدي إلى فشلهم وذهاب ريحهم وتآكلهم، وينعكس ذلك على الدولة، فتتزعزع وتتآكل من داخلها، وتمسي فريسة سهلة أمام المتربّصين بها، المنتظرين سقوطَها، وضعفها حتى ينهشوا لحمها، ويتقاسموا كعكتها.

وأمام هذا التوصيف المقدَّم للنسيج الاجتماعي وآثار غياب التماسك فيه، وما يؤول إليه من سقوط للدولة وتمزيقها، لا بدّ من قطع الطريق على المتربّصين الحاقدين الذين يرجون اشتعال الفتنة في المجتمعات المتماسكة وزعزعة استقرارها، ليسهل السيطرة عليها واحتلالها، وإن قطع الطريق لا يكون بقطع الأعناق، أو الأرزاق، أو الاتهام بالارتزاق والانشقاق، أو إرغام الآخر على الاختيار ما بين النفاق والفراق، أو الاستخفاف بأصحاب الشرف وشيطنة أهل الأخلاق، فهذا الأسلوب مصيره الإخفاق، وقد جرّبته الأنظمة الدكتاتورية في العالم، على رأسهم نظام الأسد، إذ تعامل مع شعبه  باستخفاف، بسياسة النفاق أو الفراق، والاتهام بالانشقاق والارتزاق، والحكم عليهم بقطع الأرزاق أو الأعناق، فأفضى به الحال إلى السقوط والانزلاق، ولن ينفعه اليوم راق، وهذا مصير كل من يستخف بشعبه ويريد أن تُطأطَأ له الأعناق.

فلا بدّ إذن لتحقّق التماسك في نسيج المجتمع بين مكوّناته المشكِّلة له، من أن ترتِّب الدولة القائمة بيتَها الداخلي، مراعية في ذلك ما يأتي:

  1. الوطنية:

إنّ تعزيز الوعي الوطني في فكر مكوّنات المجتمع السوري، هو ضمان من الانزلاق إلى حرب طائفية، فالوطن يجمع بين المسلم وغير المسلم، بين السُّني والعلوي، بين العربي والكردي، بين الدرزي والتركماني، إنه يجمع بينهم جميعًا، فهو بيت السوريين جميعهم، وعندما يستحضر السوريون على اختلاف مسمياتهم هذا الانتماء للوطن يتعزّز عندهم تماسك النسيج الاجتماعي.

2 . التشاركية:

إن إشراك جميع المكونات المجتمعية في إدارة الدولة من خلال استقطاب الكفاءات العلمية، يجعل هذه المكونات تشعر بانتمائها إلى الوطن، وبارتباطها بالمكوّنات الأخرى، وأنها تشاركها في بناء الدولة، ولا يخلو مكوِّن من وجود كفاءات في صفوفه، قادرةٍ على المشاركة الفاعلة، وإنّ ملاحظة مكوِّن ما لحالة إقصائه، أو تجاهله، وعدم تقدير كفاءاته من خلال عدم إشراكهم في القيادة، يؤدّي هذا إلى شعوره بعدم الترابط مع مكونات المجتمع، وإلى وجود فجوة بينه وبينها وانقطاع، وهذا يدعوه إلى البحث عن تقدير الذات، أي عمن يقدّره قدره، وينزله منزلته، ولو كان من خارج مكوِّنات هذا المجتمع وقيادته، فيخسر المجتمع بذلك تماسكه وترابطه.

3 . الحيادية:

وذلك بأن تكون القيادة العليا للدولة على مسافة واحدة من كل المكونات الاجتماعية، ولا يعني هذا أن تتجرّد من حبّها لمكوِّن ما تراه يمثّلها، أو من كرهها لمكون ما تراه بعيدًا عنها؛ فالعاطفة القلبية لا يمكن إلغاؤها، ولكن المطلوب ألا يُظهر الحاكم حبّه أو كرهه، بل يبقي ذلك في قلبه، ويتعامل بسياسة الحياد مع جميع من كان حاكمًا عليهم، وهذا الحياد يقوّي شعور المحكومين بترابط بعضهم ببعض، وإذا ما أظهر الحاكم عاطفته وفقد حياده، فإن هذا يُضعف من تماسك المجتمع بسبب ما يولّده عدم الحياد العاطفي من حسد وحقد، وهذا ما حصل مع إخوة يوسف عندما لاحظوا حبّ أبيهم يعقوب لابنه يوسف عليهما السلام، فذهب التماسك بينهم، ووصل بهم الحال أن رموه في غياهب الجبّ ليتخلّصوا منه، وينفصل عنهم.  

4 . العلمية:

فالقيادة التي تحترم القوانين، وتراعي المعايير العلمية في اختيار المسؤولين عن إدارة مؤسسات الدولة، تجعل الناس على اختلاف مكوّناتهم يتماسكون، لأنهم يدركون أن القيادة لا تنظر إلى الشخص ومدى ولائه لمكوّن ما وقربه من جماعة ما، وإنما تنظر إلى المعيار العلمي، والقانون الحاكم، فمن تحققت فيه المعايير، ووافقته القوانين، فهو الأحقّ بالإدارة، والأولى بها، وأما إذا لاحظوا خلاف ذلك، وأن القيادة تضرب بعرض الحائط القوانينَ والمعايير العلمية والثورية، أو أنها تراوغ من خلال ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين، فهذا كفيل بسقوط التماسك في المجتمع، وتمزّق نسيجه.

5 . العدالة الاجتماعية:

فحرص القيادة العليا على تحقيق العدالة الاجتماعية بين أفراد المجتمع كله على اختلاف مكوِّناته، يرسّخ حالة التماسك المجتمعي، لأن إقامة العدالة في مجتمع ما ينمّي شعور الأخوّة بين الناس جميعًا، فيتداعون إلى التشارك في المحبوبات، والتضامن في المكروهات، وهذا ما رأيناه جليًا في سلوك النبي محمد عليه الصلاة والسلام القائدِ الحكيم الذي استطاع أن يحقق تماسك نسيج المجتمع المدني، عندما آخى بين الأنصار والمهاجرين، ووجّههم إلى أن يشارك بعضهم بعضًا في الزاد والمال والنساء، فمن عنده فضل طعام قدّمه إلى من لا طعام عنده، ومن عنده فضل مال قدّمه إلى من لا مال له، ومن عنده أكثر من زوجة طلّق إحداهن ليتزوجها من لا زوج له، وبذلك صار المجتمع متماسكًا ملتحمًا قويًّا، ففتح المشرق والمغرب بهذا التماسك القائم على الأخلاق الاجتماعية.

وأخيرًا، إنّ هذه العوامل الخمسة المتقدّمة هي أركان تماسك النسيج الاجتماعي، وأيّ غياب لعامل منها يؤدي إلى سقوط ركن، وسقوط ركن يقلقل هذا التماسك ويزعزع نسيجه، فلا بدّ من الحرص عليها جميعًا، ولن يكون هذا الحرص إلا إذا عُدّ التماسك الاجتماعي أُولى الأَولويات في بناء الدولة، وأما من لا يراه ضروريًا، ويظن واهمًا أنه يمكن أن يقيم دولته على نسيج قلق غير مطمئن، فليعلم أن دولته ستنهار به؛ لأنه أسّس بنيانها ( عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٖ ) [التوبة: 109]، بل ستكون عرضة لدخول العدو، كبيت العنكبوت ذي النسيج الوهن سريع التمزّق والانهيار، الذي لا يحميها من عدو (وَإِنَّ أَوۡهَنَ ٱلۡبُيُوتِ لَبَيۡتُ ٱلۡعَنكَبُوتِۚ لَوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ) [العنكبوت: 41].

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *