د.شادي صلاح محمود
في هذا الحاضر الذي نعيشه، لا يمكن لأية دولة في العالم، خاصة الدولة الناشئة حديثًا، أن تستمر وتفرض سلطانها من خلال ما تملكه من قوّة مادية فحسب، أو من خلال ما تكسبه من قبول خارجي بها، وإنما تحتاج بالإضافة إلى ذلك كلّه إلى قدْر كبير من القبول الداخلي الاجتماعي، أو ما يسمى بالرضا الجماعي بها، فالقوة وحدها في حاضرنا لا تحافظ على بقاء الدولة، والقبول الخارجي لا يصنع شرعية الدولة، فالأمر منوط بالقبول الاجتماعي والرضا الداخلي، وأية دولة تستهين بهذا القبول والرضا وتستخف به مغترةً بقوتها وقدرتها على العنف والقمع، ومستقوية بالقبول الخارجي، فهي دولة ساقطة لا محالة؛ لأنها مثل العنكبوت التي لم تنسج بيتها الداخلي نسيجًا محكمًا، ولم تجعله مطمئنًا، (وَإِنَّ أَوۡهَنَ ٱلۡبُيُوتِ لَبَيۡتُ ٱلۡعَنكَبُوتِۚ لَوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ) [العنكبوت: 41]. ولنا في نظام بشار الأسد أكبر دليل على ذلك، فلقد استخف شعبه، وكان أكبر همّه كسب رضا الخارج، وتقديم التنازلات للشرق والغرب، وكان آخر همه رضا الشعب السوري، وظن واهمًا أنه سيبقى إلى الأبد، فأسقطه هذا الشعب الذي طالما استخفّ به وبحقوقه الشرعية، ولم ينفعه حينئذٍ شرق ولا غرب.
إن شرعية الدولة تكمن من خلال القبول والرضا الاجتماعيَّين بها، بحمل المجتمع بكل مكوّناته العرقية والدينية والطائفية على الاعتقاد بأنها (الدولة) ضرورة من ضرورات اجتماعهم الإنساني، وهذا القبول والرضا وما ينتج عنه من اعتقاد، لا يتأتّى عن طريق القهر والعنف والإرغام، وإنما سبيله الإقناع المتولِّد من رؤية القائمين على الدولة وهم يحملون قيم العدالة المجتمعية، ولا عدالة من دون انفتاح على مكوّنات المجتمع ومشاركة حقيقية لكفاءاتها في إدارة الدولة، فيتولّد حينئذ الوعي الجمعي بضرورة التسليم بالحاجة الموضوعية إلى الدولة، ثم يُترجَم هذا الوعي إلى انتماء، ثم يتحوّل الانتماء إلى ولاء.
إن الدولة ليست سلطة مفروضة على المجتمع من علٍ، إنها الأسرة والمدرسة والجامعة، والجامع والكنيسة، والأحزاب والنقابات، والمنظمات الاجتماعية، …إنها المجتمع بكل مكوّناته وقد توافق على تنظيم نفسه.
وأما إذا انغلقت الدولة على نفسها، وأتت بمن هم على شاكلتها، ولم تسعَ إلى احتواء من يخالفها، ولم توسّع صدرها لتقبّل النقد الموضوعي والرأي الآخر، ولم تؤمن بحق الآخر في المشاركة والبناء، ولم تثق إلا بأبناء جلدتها والمتناغمين معها في اللون والشكل والحجم، وأقصت كل من يعارضها وينقدها، وسعت إلى شيطنتهم وتخوينهم وإرغامهم وإخضاعهم، فإنها لن تنال من المجتمع الولاء، ولن يشعر إليها بالانتماء.
وإذا كان هذا حال الدولة، فلا يغرّنها اجتماع بعض الناس من حولها، فهؤلاء ممن لا يعرفون الولاء، وليسوا أهلًا للانتماء، وإنما هم عبيد منتفعون، لا قيم عندهم ولا مبدأ، يلهثون وراء المال والمنصب، ويسهل اختراقهم وشراؤهم، فلا يعوَّل عليهم في البناء، إنهم أدوات رخيصة وسلعة حقيرة، وما سقطت سلطة إلا لاعتمادها على أمثال هؤلاء من العبيد.
فالدولة إذًا أمام خيارين:
خيار صعب؛ وهو إشراك الأحرار في قيادة الدولة وبنائها.
وخيار سهل؛ وهو استبدال العبيد بالأحرار، ولقد سجّل التاريخ أن العبيد دائمًا وراء سقوط الدول وخرابها وخيانتها، إذ العبيد لا يؤتمن جانبهم، إنهم يميلون مع الهوى، وحيث تكون القوى.
ووصفنا الخيار الأول بالصعب؛ لأن الأحرار أصحاب قرار لا إقرار، وقيادتهم أمر ليس بالسهل؛ إنهم أصحاب مبدأ وكرامة، فلا يمكن شراؤهم، وأما العبيد فقيادتهم سهلة، لأنهم يقرّون ما يُملى عليهم ولا يقرّرون، ويمكن شراؤهم بتقديم ما يلهثون وراءه من مال ومتاع وهوى، ولذلك نرى أن أية سلطة مستبدة في العالم تقدّم العبيد على الأحرار؛ إذ لا مبدأ لهم ولا كرامة.
إن الدولة الناشئة حديثًا هي دولة هشّة، أولًا، لحداثة سنّها، وثانيًا، لما تنوء به من إرث ورثته من سلطة قبلها غالبًا ما تكون سلطة استبدادية قمعية، كالحالة السورية بعد تحرير سورية من سلطة الأسد في 8-12-2024، فلا بدّ لها لتخرج من هشاشتها من الحرص على تماسك النسيج الاجتماعي، والاستعانة بالكفاءات والأحرار من كل المكوّنات، وإن لم تفعل ذلك فهي تجعل الأرض خصبة للفتنة والانقسام والحرب الأهلية، وهذا يزيدها هشاشة ويجعلها تتآكل من الداخل، وقد تنهار ككيان جامع، وتتفكك إلى سلطات أهلية (مليشيات)، حدث هذا في لبنان، وفي الصومال، وفي العراق، وقد يحدث في أي بلد آخر يشبهها في المعطيات والبُنى والمكوّنات.
إن الدولة لا تكون بصحة جيدة إذا ساءت صحة المجتمع، ولا المجتمع يكون معافى إن أصاب الدولة مرض، فالعلاقة بينهما علاقة تلازم، والمصير واحد في السراء والضراء، فإذا كان المجتمع في خير، فالدولة في خير، والعكس صحيح.
[1] نشرت في نينار برس في العدد 252 تاريخ 25-1-2025