د.شادي صلاح محمود

نلاحظ في مجتمعنا في شمال غرب سورية انتشارًا لحالات سلوكية توصف بأنها سلوك إجرامي، ويمكن تقسيم الإجرام الملاحظ في مجتمعنا إلى نوعين؛ إجرام ذاتي، لا يتعدى إلى الآخر وإنما يقع على المجرم ذاته، كأن ينتحر، أو يلقي بنفسه إلى التهلكة، وإجرام اجتماعي يقع على الآخر، كأن يقتل غيرَه، أو يسرقه أو يقوم بخطفه وتعذيبه.

والسؤال، هل الإجرام بنوعيه طبع عند الإنسان وفطرة وخليقة أو أنه نتيجة عوامل ما؟

والجواب يسير؛ إذ يولد الإنسان على الفطرة والبراءة، وليس الإجرام أصيلًا عنده وطبعًا، وإنما هو مكتسب صنعته عوامل متعدّدة وقفت عليها مدارس علم الاجتماع وفسّرت بها السلوك الإجرامي وعلّلت أسبابه.  وإن تفسير السلوك الإجرامي يمثّل جانباً مهماً من جوانب الدراسات الاجتماعية؛ فإنه إذا كان القانونيون يدرسون الجريمة على أساس أنها انتهاك لقاعدة قانونية يستحق صاحبها العقوبة، فإن الدراسات الاجتماعية تهتم بمعرفة أسباب إقدام بعض الأفراد على ارتكاب الجرائم، ويمكن القول بصفة عامة إن البحث المبكر في أسباب أو عوامل السلوك الإجرامي قد اعتمد على نوعين من التفسير، هناك التفسير البيولوجي أو العقلي الذي يعتمد على دراسة الخصائص البيولوجية والعقلية للمجرمين، وهناك التفسير البيئي الاجتماعي الذي يميل إلى تفسير السلوك الإجرامي على أنه نتاج عوامل بيئية اجتماعية يتعين الكشف عنها.

فالمجتمع هو الذي يصنع المجرمين غالبًا:

فالغني الذي لا يعطي جاره المسكين حقَّه من مال الزكاة، ويبخل عليه حتى بالماعون وهو أحقر شيء ينتفع به، و يظهر أمامه بكامل زينته ورفاهيته وبسطه، فإنه يستفزّه ويجعله يفكِّر بالانتقام منه، وأخذ حقِّه بطرق غير مشروعة، كالسرقة والخطف، أو يُجرِم بحق نفسه فينتحر، وبذلك يكون هذا الغني قد صنع مجرمًا من حيث لا يدري.

ومسؤول عن مؤسسة ما عندما عندما يكون معياره في التوظيف غير علمي، فيوظِّف من ليس بأهل للعمل، ويترك من هو أهل له بحسب المعايير العلمية والقانونية، فإنه يجعل صاحب الكفاءة يحقد عليه، خاصة إذا عانى الفقر والعوز بسبب هضمه حقّه في العمل، وقد يفكّر بالانتقام منه بطريقة ما قد تجعل منه مجرمًا، وربما إذا ضاقت عليه الدنيا وسُدّت عليه الأبواب يفكّر بالانتحار.

والشاب المعسر الذي يحتاج إلى الزواج فلا يقبل به الناس لفقره، ويزوجون بناتهم للموسر، فإنه يفكر بالانتقام من هؤلاء، فيقدم على الزنى، وهو جريمة، وإذا ما ارتكب الزنى قد يصاب باكتئاب قد يودي به إلى الانتحار.

والولد (صبيًا أو أنثى) الذي يحرمه أبوه من أدنى حقوقه، ويظلمه في المعاملة، ويقسو عليه كثيرًا بالضرب والقهر، نراه يصبح عدوانيًا مجرمًا، وقد يُقدم على قتل نفسه.

والزوجة عندما تُظلم، ولا  تراعى حقوقها، فإنها تتحوّل إلى مجرمة، وقد تنتحر.

ومع الأسف، كل يوم نسمع بحالات انتحار، وحالات قتل، وحالات خطف، وحالات سرقة، ونصف أصحابها بالمجرمين، وغاب عنا أننا نحن سبب إجرامهم وفسادهم، فلو أننا أعطيناهم حقّهم، واهتممنا لأمرهم، وأحسسنا بوجعهم، وتداعينا لشكواهم، ونفّسنا كربتهم، ويسّرنا عسرهم، وكنّا في عونهم، لَما وصلوا إلى ارتكاب حماقة في حق أنفسهم أو في حق الآخرين، قيل للخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز: يا أمير المؤمنين، إن الناس قد تمرّدت ، وساءت أخلاقها ولا يقوّمها إلا السوط، فقال: كذبتم، يقوّمها العدل والحق.

      وأستحضر هنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم المشهور بحديث السفينة الذي سبق فيه النبي منظرّي علم الاجتماع في تفسير سبب الجريمة بالعامل الاجتماعي، إذ أشار إلى  أن من يُحرَم من متطلبات حياته الضرورية يصبح أحمقَ ويفكّر بالجريمة.

فأصحاب أسفل السفينة بدأوا يفكرون بخرق السفينة، لماذا؟ لأن أصحاب العلو أظهروا انزعاجًا وضيقًا وامتعاضًا منهم وهم يصعدون إليهم لكي يُدلوا دلوهم من السطح ويستخرجوا الماء، فما صبروا عليهم وعلى حقهم في الانتفاع من الماء الذي هو رمز الحياة، وحقٌ لكل إنسان، وفي رواية الترمذي ما يدل على أنهم منعوهم من الصعود: (فقال الذين في أعلاها لا ندعكم تصعدون فتؤذوننا )، فكان نتيجة هذا الامتعاض والمنع أن فكّر أهل الطابق السفلي بخرق أسفل السفينة حيث هم يسكنون استخراجًا للماء الذي مُنعوا من الوصول إليه، وهذه حماقة لا يقدم عليها عاقل لأنها تؤدي إلى غرق السفينة وكل من عليها، ولكن الذي دفعهم إليها هم أهل الطابق الأعلى. نعم ستغرق السفينة وسيختل توازنها إذا احتكر سكان الطابق الأعلى امتيازاتهم وحرموا منها جيرانهم.

فالحديث يرشدنا إلى أننا في هذا المجتمع في سفينة واحدة، وعلينا نحن القادرين الموسرين ألا نمنع الضعفاء والمعسرين من حقوقهم وألا نظهر لهم تبرّمًا وضجرًا من مطالبهم المشروعة، بل نتحمل بعض الأذى من أولئك المساكين، وإلا سندفعم إلى ارتكاب حماقة ندفع ثمنها جميعًا.

وإذا كنا نطالب الناس بالصبر على بعض الأذى حتى لا يقع غيرهم في الفعل الإجرامي فإننا من باب أولى نطالب المسؤولين بأن يتقوا الله في الضعفاء، وألا يستفزوهم بظلم أو قهر أو تجاهل لمطالبهم المشروعة، فإنّ ذلك سيولّد الانفجار، وقد وُلِد بالفعل وبدأ بالانتشار، وقد حذرنا منه كثيرًا، وقلنا لهم:

حذارِ؛ فتحت الرّمادِ اللهيبُ ***  ومن يبذرِ الشوكَ يجنِ الجراح

ولكن مع الأسف:

قد أسمعت من ناديت حيًّا  ***  ولكن لا حيــاة لمن تنـــادي!

من رئيس هيئة التحرير

محترف ذو خبرة في إدارة البرامج والمشاريع مع أكثر من ثماني سنوات في القطاع الإنساني، مشرفًا على برامج متنوعة بخبرة متخصصة في قطاعات الصحة والتغذية والحماية. يحمل شهادتي PMP® وPgMP® المرموقتين من PMI، الولايات المتحدة الأمريكية. أكمل درجة الماجستير في الصحة العامة الدولية في جامعة ليفربول جون مورس، المملكة المتحدة، مع التركيز على الاستجابة لتفشي الكوليرا في أفريقيا جنوب الصحراء، ودرجة الماجستير في إدارة الرعاية الصحية من جامعة غازي عنتاب، تركيا. تخرج حديثًا بدرجة ماجستير في إدارة الأعمال من جامعة غازي عنتاب، تركيا. شغوف بتحقيق التغيير الإيجابي والابتكار في المساعي الإنسانية، وتطبيق المعرفة الأكاديمية والخبرة المهنية الواسعة في الأدوار القيادية. Experienced professional in programs and projects management with over eight years in the humanitarian sector, overseeing diverse programs with specialized expertise in Health, Nutrition, and Protection sectors. Holds esteemed PMP® and PgMP® certifications from PMI, USA. Completed an International Public Health MSc at LJMU, UK, focusing on cholera outbreak responses in Sub-Saharan Africa, and a Master's in Healthcare Management from Gaziantep University, Turkey. Recently graduated with an MBA from Gaziantep University, Turkey. Passionate about driving positive change and innovation in humanitarian endeavours, applying academic knowledge and extensive professional experience to leadership roles.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *