الدكان ..
” دكان عم شعبان ”
لم يعد الدكان يحتوي على شيءٍ مهم يُباع .. ولكنه كان كل الكون… لصاحبه “عم شعبان”
كان أهل الحارة يضحكون عندما يرونه كل ليلة وهو يتأكد من إغلاق أبواب دكانه بإحكام ..لأن الدكان ليس به إلا ما يشتريه الأطفال؛ والأطفال ينامون مبكرًا فمن سيتكبد عناء سرقة دكان فارغ..؟! فاللصوص أصحاب عقول ..
كان عم شعبان يبدأ مشوار الذكريات معي بعد وقت العصر .. أكون أنا قد فرغت من عملي و يكون هو قد انتهى من صلاة العصر فى مسجد سيدي إبراهيم بن عمر .. فيعود إلى دكانه ماشيا في تؤدة .. ثم يجلس بجوار المذياع و يخفض الصوت إلى أقل درجة ثم يلصق أذنه به .. و بين الحين والآخر يرفع رأسه لينظر إلى ورقة صحيفة قديمة ملصقة خلفه على الحائط وعليها صورة كبيرة للزعيم الراحل.. ثم يخفض رأسه ثانية وهكذا يدخل الدكان من يدخل ثم يخرج ثانية ولا يرفع عم شعبان رأسه. .
ولكنه كان يرفع رأسه فقط إذا دخلت أنا و يبتسم في وجهي قائلًا:
– اجلس هنا يا ولدي؛ نعم أمامي هنا. لقد كان والدك يجلس أمامي فـي هذا المكان وكأنك هو ..
كان كل يوم يبدأ معي الحديث بهذه العبارة .. ثم يمد يده بعد ذلك ليخفض صوت الراديو و يكمل حديثه قائلًا:
– كان أبوك رجلا يا ولدي… أتعلم ذلك ؟ أهز برأسي موافقا وأنا لاأفهم مايعنيه بهذه العبارة ..
ثم يركز بصره على وجهي فأشعر بالرهبة ولكني أتذكر إنه لا يراني جيدًا فيستقر قلبي قليلًا ..
– كنت أنا و والدك نساعد الناس دون أن يسألوا. وقبل أن يطلبوا..
كان والدك يقول إذا انتظرنا حتى يطلب المحتاج نكون قد جعلنا منه فقيرا ومحتاجا ..
كنا نجلس سويا كل شهر نقرأ في دفتر الديون لأهل الحي ويشير بيدة لدفتر كبير ثقيل بما حواه من هموم..
نمر على الصفحات حيث كانت كل صفحة باسم بيت من بيوت الحي .. لنرى من منهم منعه الحياء والتعفف من التردد على المحل ليطلب حاجته .. لأنه قد لا يملك النقود ليسدد ديونه القديمة .. ونقوم بإرسال المواد التي اعتاد على أخذها .. نعم كانت الناس تتعثر بعض الوقت ولكنها والله يا ولدي كانت تسدد الديون.. وكان الله يبارك بكل شيء.
يقطع الحديث دخول بعض زبائن المحل .. فاضطر للقيام لتصريف بعض حاجيات الزبائن الذين ألفوا هذا الوضع ثم ما إن انتهي منهم أحاول أن أقطع عليه صمته وأستدرجه في تكملة حديثه :
– لماذا لا يأتي أولادك ليساعدوك فى أعمال الـدكــان يـا عـم شـعبان ؟
– إنهم يريدون أن يحولوا هذا الدكان إلى ما يسمى بالـ ” سوبر ماركت ” و أنا يا بني لا أعرف كيف يعمل ولا أعرف حتى أسماء الأشياء الجديدة التي تباع فيه …هم يرفضون الوقوف معي في هذا الدكان القديم … و أنا أرفض العمل معهم في هذا الـ “سوبر ماركت” … الحديث …
كانت أغلب الأيام تمر هكذا دون تغيير.. يبدو أن عم شعبان كان يفضلها هكذا ..بل يكون في منتهى السعادة عندما ينقطع التيار الكهربائي فيشعل شمعة صغيرة يضعها أمامه مباشرة ويســـند رأســـه المثقل بهموم الأيام على راحة يده فترتسم على الحائط خلفه صورة كبيرة من ظلال ضوء الشمعة لوجهه .. لتأخذ مكانها بجوار صورة الزعيم الراحل الملصقة بالحائط ولكن أكبر حجمًا .. أتأمل المشـــهد وأتســاءل من منهم البطل الحقيقي ؟
هل الأبطال الحقيقون هم الزعماء الذين يضـــعون النظريات .. ويلقون الخطب الحماسية على الشاشات وفي الميادين ..أم أن الأبطال الحقيقيين هم المهمشــــون الذين يكتوون بنار تلك النظريات .. ويتحملون عواقب النكسات والهزائم ..
ثم يقضي عم شعبان بقية ليلته هكذا.. حتى و إن اتصل التيار ثانية ..
– إلى أن أتى اليوم الذي ذهبت فيه في موعدي لرؤية عم شعبان فرأيت الأجولة و الصناديق خارج الدكان فكانت دهشتي كبيرة لأني أعلم تماما أنه لا يستطيع تحريك بعض هذه الأشياء بمفرده و لكني عندما اقتربت شاهدت ابنه الأكبر و هو يحمل بعض الرفوف إلى خارج الدكان ثم يعود ليحمل بعض الصناديق التي لم تمسسها يده منذ عدة سنوات …
ولكن المفاجأة أخذتني عندما نظرت إلى الحائط ولم أجد أوراق الصحف القديمة عليه بل إن صور الزعيم قد أزيلت أيضا ..
و هنا اقتربت من الابن الأصــغر وسألته عن أبيه ,فقال لي:
إن أباه هو من أشــار عليهم بعمل هذا بعد أن دار بينهم نقاشًا طويلًا ليلة أمس اقتنع على إثره بوجهة نظرهم وسلمهم المفتاح وطلب منهم عدم إيقاظه صباحاً ..
شعرت ببرودة شديدة تملأ جسدي و أخفضت رأسي حيث تأكدت بعدها أن هذه آخر مرة سوف أرى فيها العم شعبان.
