أ. رنا جابي
في إحدى مدارس المدينة كانت معلمة اللغة العربية تسأل طلابها عن عدد الحروف الأبجدية فيجيب الطلاب (28) عدا طالب واحد كان يقول (27) وكانت تعاقبه بالضرب في كل مرة، ولكن دون جدوى حتى تعوّد على العقوبة وذات يوم أرسلت في طلب المدير ربما يستطيع انتزاع الجواب الصحيح منه.
تحدث إليه مدير المدرسة قائلًا: أنت طالب ذكي متفوق دؤوب فقاطعه قائلًا: الحروف الأبجدية (27) ثم انصرف يحمل حقيبته بيديه الصغيرتين المتعبتين من ضرب المعلمة…
وكالعادة كانت والدته تفتح له الباب وتحتضنه قائلة: متى ستعقل (يا صغيغي) إنها مشيئة الله يا ولدي فكان يقبل رأسها ويعدها بعدم تكرار ذلك قائلًا في نفسه “إن حرفًا لا تنطقه أمي لا يعد من حروف الأبجدية”
لم تكلف المعلمة أو الإدارة محاولة فهم ما يدور في رأس الصغير ولمَ يعتقد بأن الحروف الأبجدية (27) ولم يحثهم شرفهم المهني ولا فضولهم التعليمي على البحث أكثر في حالة الطالب أو التواصل مع أهله لمعرفة سبب إصراره وعنْدِه على حذف حرف من الأبجدية.
بينما في مدينة أخرى كان تيدي طالبًا في الصف الخامس رث الملابس متدني المستوى الأكاديمي منطوٍ على نفسه مكتئب وكانت معلمته لا تحبه، بل وتجد متعة بوضع علامة “0%” بالقلم الأحمر وكتابة “راسب” على أوراقه.
وذات يوم فكرت بمراجعة سجله المدرسي ففوجئت بتقارير المعلمين عنه…
معلم الصف الأول: تيدي طالب ذكي منظم يؤدي عمله بنجاح ويتقن المهارات المطلوبة منه.
معلم الصف الثاني: طالب ذكي ومحبوب لكنه حزين بسبب إصابة والدته بمرض السرطان.
معلم الصف الثالث: لقد كان لوفاة والدته وإهمال والده وقعًا سيئًا عليه وستؤثر حياته الأسرية تأثيرًا سيئًا على مستواه الأكاديمي والنفسي إن لم تتخذ الإجراءات اللازمة في أسرع وقت.
معلم الصف الرابع: طالب منطوٍ وليس له أصدقاء وتكاد تكون مشاركته الصفية معدومة وينام أثناء الدرس.
وبعد الاطلاع على كل التقارير عرفت المعلمة سبب إهماله وتألمت جدًا لحاله وزاد ألمها يوم عيد المعلم عندما جاءت هدايا الطلاب جميلة أنيقة إلا تيدي كانت هديته في كيس فقير وعندما فتحت المعلمة الهدايا لتشكرهم وجدت هديته عقدًا ناقص الأحجار وربع قارورة عطر فضحك التلاميذ ساخرين منه…
إلا أن المعلمة أبدت إعجابها الشديد بجمال العقد والعطر ووضعت قليلا منه على ملابسها وشكرته جزيل الشكر فتوقف الطلاب عن الضحك فوراً.
وقبل انتهاء الدرس اقترب من معلمته قائلًا: “اليوم رائحتك مثل رائحة أمي”
أدركت المعلمة بأن تيدي أحضر عطر والدته لمعلمته ليجد رائحة أمه الراحلة فيها وبعيون تملؤها الدموع احتضنت المعلمة تيدي وشكرته مرة أخرى ووعدت نفسها بدعمه المستمر.
ومنذ ذلك الحين والمعلمة تهتم به خير اهتمام وبدأ تيدي يستعيد نشاطه واهتمامه بتحصيله العلمي وأصبح أكثر التلاميذ تفوقا وفي نهاية العام الدراسي قدم لها بطاقة شكر قال فيها: أنت أفضل معلمة في حياتي فردت عليه: علمتني أنت أن أكون معلمة جيدة.
وبعد عدة أعوام تلقت المعلمة بطاقة دعوة لحضور حفل تخرج تيدي من كلية الطب باسم “ابنك تيدي” فارتدت العقد ذاته وتعطرت بالعطر نفسه وذهبت لحضور الحفل حاملة رائحة أمه وحنانها واهتمامها وأصبح تيدي أشهر جرّاح في العالم بفضل دعمها وحسن خلقها المهني.
ولولا أخلاق المعلمة وشرفها المهني وشعورها بالمسؤولية تجاه طلابها لكان تيدي فاشلًا محطمًا نفسيًا، وأكاديميًّا، ومدمر الحاضر، والمستقبل.
التعليم مسؤولية لا توصف فهي مهمة بناة الإنسان لذا “كاد المعلم أن يكون رسول؟
ولأسباب عديدة يجب أن يُقسم المعلم قسم المهنة قبل مزاولتها فالطبيب يقسم على المحافظة على حياة الناس والقاضي يقسم على إقامة العدل فالأولى أن يُقسم المعلم على المحافظة على حياة الطالب الأكاديمية والنفسية والجسدية وبناء الإنسان والمجتمع ليثبت لنفسه وللعالم أجمع بأن ليس هناك “أشرف أو أجل من الذي يبني وينشئ أنفسًا وعقولًا؟”.