الهُويَّة الإسلاميّة بين التنظير والممارسة
كثر الحديث اليوم عن الهوية الإسلامية، وكثرةُ الحديث عن شيء دليل على أنه في خطر، وعُقدت اللقاءات التي تدعو إلى جعل الهوية الإسلامية قائمة في حياتنا، وأنها الخلاص لنا مما نحن فيه من شرّ وفساد عريض، وأنها أشرف هوية يتبناها المسلم، وينضوي تحت لوائها، وأن الانتساب إليها عِزٌّ، والانتصار لها فوز، والموالاة والمعاداة على أساسها نجاة، وأنّ غيابها خطر على الأمة التي لن تقوم لها قائمة من دونها. .
ونحن نقرُّ بكل ذلك، ونوافق عليه جملة وتفصيلًا، ولكن ما الهوية الإسلامية التي تحقّق لنا ذلك؟ وهل يكفي للخلاص والنجاة التغني بها شعارًا، والانتساب إليها لسانًا، والانتماء لها فِكرًا؟!
وللإجابة عن ذلك نقف على مفهوم الهوية، ومقوّماتها أو مكوّناتها، ثم نعرضها على الواقع لنرى حضورها فيه ممارسة وتطبيقًا.
إنّ الهوية لفظ تراثي قديم، معناه أن يكون الإنسان (هو) ذاته، أي له خصائص ثابتة (صفات جوهرية) تُميّزه عن غيره.
وإن جوهر الهوية الإسلامية يتجلى من خلال الولاء المطلق لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، أي (الولاء للإسلام).
ومفهوم الولاء للإسلام يختلف عن مفهومي الانتساب والانتماء؛ فهو أشمل منهما وأعم، فإذا كان الانتساب قولًا، والانتماء مشاعر وأفكارًا، فإن الولاء قول وفكر مقرونان بالعمل، فالولاء للإسلام أنْ ينتسب الإنسان إليه قولًا بالتعريف عن نفسه بأنه مسلم، ثم ينتمي إليه بمشاعره وفكره، ثم يعمل بما فيه، ويجعله أولويةً فيضحي بكل شيء في سبيل إعلاء كلمته.
فالهوية الإسلامية لا تتحقق بالانتساب فحسب بالقول بأني مسلم، ولا بالانتماء فقط بالمشاعر والأفكار، وإنما بالممارسة والعمل والتضحية، ويحضرني هنا لبيان الفرق بين الانتساب والانتماء والولاء قوله الله : ﴿ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ﴾ [الأعراف88]. فثمَّةَ فـرقٌ دقيـق بيـن (لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) و(لَتَعُودُنَّ إلى مِلَّتِنَا)؛ فحرف (في) يدل على أن المطلوب هو الدخول في المِلّة، والاندماج فيها والولاء لها، والعمل لأجلها، فالملأ يطالِب شعيباً والمؤمنين بأن يندمجوا في تجمّعهم، وأن يعملوا لحسابهم وحساب منهجهم وتصورهم، واندماجهم وعملهم أكبر دليل على صدقهم في العودة، وثباتهم فيها، وهذا الصدق والثبات يجعل الملأ يطمئن لعودتهم، ووجودهم في داخل تجمّعهم، ويشعرهم بالأمان. وأما العودة (إلى) الملة، فيفيد أن المطلوب هو الانتساب إليها لسانًا، والانتماء إليها فكرًا وتنظيرًا، من دون الاندماج فيها والعمل لأجلها، وهذا خطرٌ على هذه الملة، يشعرها بالخوف وانعدام الثقة والأمان.
والأمة اليوم باتت لا تشعر بالثقة والأمان مع مدّعي الهوية الإسلامية المتغنّين بها ليلَ نهار، وليس لهم منها إلا الانتساب والشعارات والهتافات، وفي أحسن الأحوال الانتماء بالفكر والتنظير والعاطفة، وأما الممارسة العملية فغائبة!
ومن المهم أن يعلم المتغنون بالهوية الإسلامية أنهم في حاجة إلى مراجعة هويتهم من خلال ممارستها على أرض الواقع، فإذا كانوا يعدّون العَدْل من مكوّنات هذه الهوية انطلاقًا من قوله تعالى: ﴿وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعۡدِلُواْۚ ٱعۡدِلُواْ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ ﴾ [المائدة: 8] ، فعليهم إقامة العدل وإن كان بينهم وبين مستحقّه عداوة كيدية، فالهوُيّة الإسلامية تدعوهم أن يعطوه حقّه، ويُنزلوه منزلته، لا أن ينتصروا لهواهم فيقصوه، ويأكلوا حقّه!
وإن كانوا يرون أن الولاء لله ورسوله، وأنّ مودّة من يحادد الله ورسوله منهي عنها استنادًا إلى قوله تعالى: ﴿ لَّا تَجِدُ قَوۡمٗا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ يُوَآدُّونَ مَنۡ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَوۡ كَانُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ أَوۡ أَبۡنَآءَهُمۡ أَوۡ إِخۡوَٰنَهُمۡ أَوۡ عَشِيرَتَهُمۡۚ أُوْلَٰٓئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلۡإِيمَٰنَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٖ مِّنۡهُۖ ﴾ [المجادلة: 22] فعليهم قطع علاقتهم بمن ثبت عليه ذلك ولو كان من أبناء جلدتهم، لا أن يقربوا الحادّ المفسد لقربه منهم وولائه لهم، ويبعدوا الصالح المصلح لبعده عنهم وانتقاده لهم!
وإن كانوا يؤمنون بأن خيرية الأمة جاءت من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر انطلاقًا من قوله تعالى: ﴿كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ ﴾ [آل عمران: 110] فعليهم بذلك من دون أن يخشوا في الله أحدًا، وأَلّا يَمْنَعَنَّهم مَخَافَةُ النَّاسِ أَنْ يَتَكَلَّموا بِحَقٍّ إِذَا عَلِموه، وإن لم يفعلوا فليرتقبوا وعيد النبي صلى الله عليه وسلم: «لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُسَلِّطَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ شِرَارَكُمْ، فَلَيَسُومُنَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، ثُمَّ يَدْعُو خِيَارُكُمْ فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ، لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيَبْعَثَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مَنْ لَا يَرْحَمُ صَغِيرَكُمْ، وَلَا يُوَقِّرُ كَبِيرَكُمْ»
أيها الإسلاميون المتغنون بالهوية الإسلامية شعارات وهتافات، لا تطبيقًا وممارسات، إنّ الإسلام اليوم في خطر، يتربّص به أعداؤه، فلا يؤتى من قِبَلِكم، ولا تظلموه بالانتساب إليه قولًا، والإساءة له فعلًا، فلقد كادت الأمة أن تفقد ثقتها بكل من يدّعي الهوية الإسلامية، إذ لم يروا منهم تطبيقًا لمضامين هذه الهوية في المؤسسات التي تولّوا أمرها.
إن الأمة إذا فقدت ثقتها بكم ستميل إلى غيركم، وسيأتي من يسدّ مسدكم، ويحلّ محلكم، ويغني مغناكم، وما انتشار التيارات الوطنية، والتفاف الناس حولها إلا ردّة فعل على فقد الثقة بمعظم الإسلاميين الذين لم يمارسوا العدالة، ولم يقيموا الحق، فلجأ هؤلاء إلى تيارات وطنية لعلهم يجدون عندهم ما فقدوه عند الإسلاميين.
والحل لإعادتهم إليكم وإعادة ثقتهم بكم لا يكون بالوعظ والدعوات إلى الانتساب إلى الهوية الإسلامية دون سواها، ولا بشيطنة التيارات الوطنية وكل من ينتسب إليها، وإنما بالالتزام بمقومات الهوية الإسلامية، ورؤية أثرها عليكم سلوكًا وعملًا، فقد شبعنا تنظيرًا وقولًا! ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفۡعَلُونَ كَبُرَ مَقۡتًا عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لَا تَفۡعَلُونَ﴾ [الصف: 2-3]