د.جميل التميمي

ثلاث شقيقات يسكن في بيت واحد منعزل في إحدى قرى محافظات العراق النائية تصاب الشقيقة الكبرى ذات الشخصية القوية والمتسلطة بنوع من أنواع مرض الفصام والذي يطلق عليه علميا ووصفيا بالفصام الاضطهادي الذي يتميز بأوهام وهلاوس أساسها الشعور بالاضطهاد إلا أن هذه الأوهام قد يصعب على الآخر فهمها على أنها أوهام لأنها تأخذ شكلاً يكاد يكون مقبولًا اجتماعيًّا ولا يبتعد عن أي خلاف اجتماعي عائلي بمعنى أن هذه الأوهام تختلف عن الأوهام الغريبة في أنواع أخرى من الفصام وهنا تكمن خطورة هذا النوع من الفصام لأن شخصية المريضة تكاد تكون مقبولة من حيث الرزانة والثقل الاجتماعي أي أنها لا تبدو لغير المتخصص بالطب النفسي أنها مصابة بالفصام بل ربما يعتبرها البعض مجرد شخصية حساسة..

كان هناك مشاكل مستمرة بين الأخت المريضة وأختها الصغرى ولكن هذه المشاكل لم تكن واضحة الى الحد الذي يقتضي تدخل العائلة، إلا أن في الأشهر الأخيرة وقبل حدوث الكارثة بدأت تظهر هذه الخلافات وأخذ الخلاف يترك أثرًا واضحا في أجواء العائلة فلا يمر يوم إلا وينتهي ليله بصراخ وشتيمة بين الشقيقتين، كانت الأخت الكبرى تأخذ دور سيدة البيت والأمر الذي سهّل عليها ذلك هو أن والدتها طاعنة في السن وتكاد تكون مقعدة لذلك أصبحت العائلة بأكملها تعتمد وتثق بها وبقدراتها وإمكانياتها على التحكم بالبيت وإدارته بشكل منضبط هذا الأمر سهل منحها ثقة السيطرة على البيت بدون أي اعتراض ومشقة، أتذكر أنني عندما فحصت حالتها النفسية لأول مرة وأنا ضمن فريق لجنة طبية نفسية عدلية مؤلفة من مجموعة أطباء كانت تتكلم بثقة عالية وكثيرا ما كانت تستخدم يديها للتعبير ولا تنظر لنا وكأنها تخاطب قوما آخرين غيرنا.

أخذت الفتاة بالشك بأختها على أنها تعمل لها سحرا يجعلها تعاني من آلام مستمرة بجسدها وخاصة في منطقة البطن (كان هذا بداية الوهم الاضطهادي) ولأنها تمتلك مقدرة وشخصية مؤثرة في البيت استطاعت الاستحواذ على عاطفة أفراد الأسرة البسيطة غير المتعلمة وخاصة أختها الوسطى المقربة جدا منها والمتعاطفة معها وهنا بدا الخطر يتسلل إلى عقل الأخت الوسطى إذا استطاعت الأخت المريضة إقناع أختها الوسطى غير المريضة بأوهامها بأن أختهما الصغيرة تضمر لهما العداء وتعمل لهما سحرًا وتعويذات بحجة أن هناك جنيا متلبسا بها وأخذتا بتفسير كل حدث في البيت أو في أجسادهما على أنه بتدبير منها، لم يكن سهلا على الأخت الوسطى تقبل الأمر بيسر في البداية إلا أنها كانت تحت تأثير الأخت الكبرى بسبب تعلقها وملازمتها لها طوال الوقت ولأن طبيعة حياتهما شبه منعزلة عن العالم الخارجي بمعنى أن مصدر الفكر والمعلومة للأخت الوسطى هو أختها الكبرى والتي كانت تسكن معها في نفس الغرفة في حين الأخت الصغرى وبسبب الخلاف معهما كانت تسكن في غرفة الأم العجوز لذلك بدا الوهم بالانتقال للأخت الوسطى تدريجيا وفي غضون أشهر أصبحتا تحملان نفس الوهم المشترك وفي النهاية قررتا قتل الجن المتلبس بأختهما الصغرى وانتهى الأمر بمقتل أختهما ليتم إحالة هذه الجريمة إلى القضاء ومن ثم إلى لجنة نفسية لتقييم حالتهما النفسية…

هذه الحالة معروفة لدى الطب النفسي بـ (الوهم المشترك) وبإمكان أي مختص بالطب النفسي أن يتحدث عنها بمعنى أنها حالة بالرغم من أنها غير شائعة، ولكنها موثّقة في كتب الطب النفسي هذا يعني أنه يوجد العديد من هذه الحالات المرضية في المجتمعات…

فالوهم المشترك؛ هو اضطراب نفسي يصيب شخصين أو أكثر متعلقين مع بعض لكنهم شبه منعزلين عن العالم الخارجي فكريا وعاطفيا

ميزة هذا الاضطراب أن هناك فعلا مريضا حقيقيا يعاني من أوهام وهلاس يطلق عليه المريض الفعال…

في حين أن المرضى الآخرين هم في حقيقة الأمر ليسوا بمرضى وإنما يكتسبون نفس أعراض المرض يعني نفس الأوهام وربما الهلاوس بحكم مصاحبتهم المستمرة للمريض وتعاطفهم معه لذلك يطلق عليه بالمريض السلبي

على سبيل المثال يعتقد المريض الحقيقي والذي عادة يكون ذو شخصية قوية ومؤثرة بأن أحد ما يحاول اضطهاده ويكون على قناعة مطلقة بمعتقده لأنه فعلا مريض بسب خلل قد يكون في كيميائية الدماغ لكن الآخرين يصابون بنفس الوهم ليس لأنهم مرضى حقيقيون ولكن لأنهم يعيشون مع المريض ويشاركونه الأفكار والمشاعر لذلك ينتقل الوهم إليهم بسبب عزلتهم الفكرية والعاطفية عن المجتمع فالمعلومة يحصلون عليها حصريا من المريض وفي نفس الوقت يتعاطفون معه كونه قريب منهم لأنه ربما يكون أحد أفراد العائلة أو صديق مقرب ولا يسمعون المعلومة التي ربما تدحض ادعائه بمعنى أن عاملي الفكر والعاطفة هما اللذان يلعبان دورا مهما في انتقال المرض

فعامل الفكر لأن لديهم مصدر واحد للمعلومة

وعامل العاطفة لأن المريض مقرب منهم

(وعلينا التفريق بين حالة مرضية غير المقصودة والمقصودة التي تسمى بغسيل الدماغ كما يحدث في بعض التنظيمات المؤدلجة))

ربما يسأل سائل ما المغزى من ذكر هذه القصة والتي بمجرد أن يقف خلفها مريض نفسي ينتفي كل تبرير للجريمة لأنها لن تكون الجريمة الأولى ولا الأخيرة والتي يقف خلفها فكر مرضي؟

الجواب؛ هو أن هذا الاضطراب النفسي ربما يدفعنا لتفسير بعض من سلوكيات الجماعات والتكتلات البشرية (دينية كانت أم غير دينية) وقناعاتهم تجاه فكرة أو منهج يزرعه أو يقتنع به أحدهم فيؤدي إلى اقتناع اتباعه لنفس الأسباب التي ذكرتها سابقا (الفكرية والعاطفية) بمعنى أن هناك تشابه بالأجواء بين هذه الحالة المرضية والجماعات البشرية بمختلف أيديولوجياتها لأن الحالتين تحملان نفس العناصر الأولية لتكوينهما.

فأنت دون أن تشعر ميالا لفكر ومعتقدات العائلة التي تعيش معها، بل أنك سترث ليس فقط جينات أبويك وإنما سترث افكارهم وتقاليدهم بحكم قربك منهم وتعلقك بهم لذا فان هذا الموضوع ينطبق على الجماعات والمذاهب والأديان والافكار الدينية وغير الدينية وإن كانت بدرجات متباينة، ولكن علينا أن ننتبه بأن كلما كان الارتباط المشترك غيبي وروحي كلما ازداد التعلق والانتماء بهذه الأفكار…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *