أ. بيبو يوسف
كنت أتأمل مؤخرة رأسه من مقعدي الخلفي الذي أغرقت فيه جسدي بأريحية غير مريحة، جسدي الذي أتعبته حكايات لم تُحكَ ومشاوير لا تنتهي. شعرت بنوع من الحماقة وأنا أطيل النظر إلى هذا الغريب، فأبعدت عيني عن مؤخرة رأسه وأطلقت بصري نحو الشوارع التي تركض خلف زجاج السيارة. تلك الشوارع التي لا تعرفني، رغم أنها محفورة بداخلي كبوصلتي التي لم تضلني يومًا ولم تخذلني، لكنها الآن تنكرني كابنٍ عاقٍ لا يعرف ما هي خطيئته.
أغلقت فمي بقوة كي لا تصدر منه أي حماقة نحو هذا الغريب، الذي أشعر بفيض ملح في سرد له تفاصيل حياتي، لأني لن ألتقيه مجددًا.
هو ليس أمي… أمي ستتذكر تفاصيل القصة غدًا، وتشعرني بحماقتي، أو ربما تفرض عليّ رقابة فطرية تمنعني من حماقات لن أتوقف عن فعلها.
وهذه المرة لا أريد أن أركض إلى صديقتي، لن أحكي لها، هي لا تملك سلطة أمي، لكنها ستذكرني بحماقاتي، وأن هذا فعل لا يجب أن أفعله… وحقًا، هذه المرة لا أريد أن أعرف حقيقة ما أفعله، هل هو صواب أم خطأ؟
لا أريد… لا أريد أن أعلم هل سأصعد إلى النعيم أم أني سأغرق في ظلمات الجحيم!
لا أريد أن أسمع أي أحكام، أو أرى أي نظرات أشهد فيها خيبتي…
أريد أن يسمعني أحدهم بلا أي أحكام أو نظرات أو تهكمات.
_ لقد وقعت في الحب!
لم أفلح في إسكات لساني، نطق بما يخنقه. ظننت أنني أهمس، أو ربما وددت أنني أهمس، لكنه سمعني.
ذاك صاحب النظرات الشاردة في طريق لا ينتهي، عيونٌ مجهدة من طرق لا تنتهي، وأشخاص لا يتكررون، وعوالم لا ترحم، وحكايا لا تُنطق…
لم أختر هذا اليوم سائقًا من تطبيق ذكي يمكنه أن يعثر عليّ بسهولة، يملك رقم هاتفي وعنواني…
اخترت بعشوائية سيارة أجرة “تاكسي”، التي تكاد أن تنقرض كمشاعر البشر المخدّرة بهواتف ذكية، والتي ستنفجر ذات يوم بثورة على هذا الركض، أو ربما ستندثر ونتحول جميعًا إلى مسوخ…
أجابني وهو لا ينظر إلي:
– تهنيني؟
– وهل الحب يستحق التهنئة؟
– إن لم يستحق الحب التهنئة، فماذا يستحق!
– لم أقع من قبل في الحب، وهذا يرعبني!
– لماذا ترتعبين من شيء عظيم كالحب؟
– ماذا إن كان الشخص الخطأ؟ ماذا إن كنت أنا الشخص الخطأ؟
ماذا إن كان احتياجًا وأنا أنظر إلى احتياجي، وهو لا يحبني؟ ماذا إن كانت خدعة؟
ماذا؟ وماذا؟
– ما هذا الجحيم الذي تحرقين نفسك فيه يا صغيرتي!
هل كل قديس ستحتضنه الجنة؟ أو أي عربيد سيلقى في الجحيم؟
الكل يتمنى، لكن لا أحد يعرف كيف سينتهي به الطريق…
تفرطين في التفكير، وكأن خطأك سيكون النهاية.
فلتُخطئي، لا أحد ينجو دون أن يتعلم من أخطائه.
فلتقعي في العشق، حتى وإن كنتِ ستقعين في عشق الشيطان.
لن تعلمي أبدًا ما الذي ستحصلين عليه…
قد يُحوّل العشق الشيطان إلى قديس،
وقد يتحول القديس إلى عاهر لا يُطاق…
لا أحد يعلم كيف ستكون نهاية الطريق،
ولا أحد ينجو فقط لأنه قرر البقاء دون مواجهة الأمواج.
إن لم ترتطمي بقطرات المياه الغاضبة، لن تعلمي أبدًا كيف كان شعور الغوص، ورؤية الأعماق، ومحاولة اكتشاف عالم جديد يا صغيرتي…
قد تستحق مقابلة الموت وجهًا لوجه…
لا تخافي، فكلنا حماقة، وذات يوم سنصير موتى، ولن يتذكر أحد حماقتنا يا صغيرتي…
لا أعلم كيف أنهينا الحديث، أو ربما أن الطريق انتهى قبل أن ننهي حديثنا،
لكن أعلم أننا لن نلتقي مجددًا، وهذا يشعرني براحةٍ عارمة.