ميسون محمد

حين يُكتب التاريخ، لا تُسجَّل الأحداث فقط، بل يُرصَد ميزان العدالة فيها. والعدالة في أي مجتمع تبدأ من دستوره، من الوثيقة التي تُحدّد ملامح المستقبل وتوزّع الحقوق والمسؤوليات. فكيف يمكن لدستور سوريا القادم أن يكون انعكاسًا حقيقيًا لمكانة المرأة، لا مجرد سطور منمقة تُضاف إلى سجلات وعود غير مُنجزة؟

المرأة السورية التي دفعت أثمانًا باهظة خلال سنوات الحرب، لم تعد مطالبها بحقوقها تندرج فقط ضمن إطار الإنصاف، بل باتت ضرورة لا غنى عنها لإرساء توازن حقيقي في عملية إعادة بناء الوطن. فالمشاركة السياسية، والضمانات القانونية التي تحميها من التمييز، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ليست امتيازات تمنح، بل ركائز أساسية لأي مشروع وطني يسعى للنهوض من تحت الركام.

وبعد سنوات من المعاناة والتهجير، تجد النساء السوريات أنفسهن أمام معركة جديدة تتعلق بمكانتهن وحقوقهن في الدستور السوري القادم. هذه الحقوق لم تعد مجرد شعارات تُرفع أو مطالب تُدرج في النصوص، بل أصبحت امتدادًا لتجاربهن اليومية وتحدياتهن المستمرة. ومن خلال الحوار مع مختصات قانونيات وناشطات حقوقيات، تبرز الحاجة إلى ترسيخ هذه الحقوق في الدستور بشكل يضمن عدم الالتفاف عليها أو إخضاعها للتأويل. ولذلك، يجب أن تتركز الجهود على صياغة نصوص دستورية واضحة تجعل هذه الحقوق التزامًا قانونيًا ثابتًا، مدعومًا باستراتيجيات عملية تحولها من مطالب نظرية إلى واقع لا يقبل التأويل.

 المساواة الدستورية: بين النص الصريح والواقع المُعاش 

تؤكد ديما موسى، المحامية المتخصصة في حقوق المرأة، على ضرورة أن يتضمن الدستور الجديد “النص الصريح على المساواة الكاملة بين النساء والرجال في الحقوق المدنية، الاقتصادية، السياسية والاجتماعية دون أي غموض قد يفتح الباب للتأويل أو الاجتهاد”. وترى أن الدساتير السورية السابقة كانت تستخدم مصطلحات فضفاضة مثل “المواطنون سواسية في الحقوق”، مما سمح باستمرار التمييز في قوانين الأحوال الشخصية وقوانين العمل. موسى تشدد على أن “المساواة ليست شعاراً، بل مبدأ دستوري يجب أن يُنص عليه صراحةً”، وتؤكد ضرورة إلغاء المرجعيات الدينية في النصوص الدستورية “لتفادي سن تشريعات تميز ضد النساء”.

من جهة أخرى، تضيف حنان زهر الدين، عضو الحركة السياسية النسوية، بعدًا استراتيجيًا قائلة: “لا يكفي النص على المساواة، بل يجب تبني مبدأ التمييز الإيجابي عبر كوتا نسائية في البرلمان والمحاكم، لتعويض عقود من التهميش”. برأيها، “المساواة النظرية تتحول إلى وهمٍ إذا لم تُترجم إلى تمثيلٍ عادل”. ولذلك، تعتبر أن الدستور يجب أن يكون أكثر من مجرد وثيقة قانونية؛ بل يجب أن يكون “التزامًا بقلب موازين القوى الاجتماعية”.

تتفق إيمان شحود، (قاضية وعضو لجنة المتابعة في شبكة المرأة السورية)، مع حنان زهر الدين في ضرورة تبني مبدأ التمييز الإيجابي وإقرار الكوتا النسائية كخطوة أساسية نحو تحقيق المساواة الفعلية بين الجنسين. لكنها، من ناحية أخرى، ترى أن هذا وحده لا يكفي، إذ تشدد على أهمية معالجة الثغرات في القوانين السورية التي تكرس التمييز ضد النساء، لضمان أن تكون المساواة ليست مجرد نصوص، بل واقعًا ملموسًا ينعكس في الحياة اليومية للنساء.

إضافةً إلى ذلك، ترى خلود بركة، (الدكتورة في جامعة دمشق قسم التربية)، أن المساواة بين الجنسين يجب أن تبدأ من مرحلة التربية والتعليم. فهي تؤكد أن “التحول نحو مجتمع أكثر عدالة ومساواة يتطلب تغييرًا جذريًا في المناهج الدراسية والتربية الأسرية، بحيث يتم تمكين الأجيال القادمة من فهم قيمة المساواة الحقيقية”. بركة تشير إلى أن “القوانين وحدها لا تكفي إذا لم تكن هناك بيئة تربوية تحتضن هذه المبادئ منذ الصغر”، مؤكدة على ضرورة أن تكون المساواة جزءًا من القيم التربوية اليومية في المدارس والأسر على حد سواء.

المشاركة السياسية: من التمثيل الشكلي إلى صنع القرار الفعلي

 ترى إيمان شحود أن “الكوتا ضرورة مرحلية، لكنها لن تكون فاعلة إلا إذا صاحبها إصلاحٌ في قانون الانتخابات يُلزم الأحزاب بترشيح النساء في مواقع قيادية، ويُخصص تمويلاً لدعم حملاتهن، خاصةً في المناطق الريفية حيث تزداد التحديات الاقتصادية والاجتماعية”.

وتُقدم خلود بركة، رؤيةً تربوية لدعم هذا التوجه: “تمكين المرأة سياسياً يبدأ من التعليم. فتعليم الفتيات على القيادة ومهارات الحوار يخلق جيلاً من النساء الواعيات بحقوقهن، والقادرات على خوض المعارك الانتخابية بثقة”.

 ديما موسى ترى أن المساواة بين النساء والرجال يجب أن تُنص عليها صراحة في الدستور، مع إلغاء أي تشريعات تتعارض مع الاتفاقيات الدولية مثل “سيداو”.

حقوق المرأة الاجتماعية والاقتصادية في الدستور: من المساواة إلى التمكين الفعلي

تؤكد حنان زهر الدين  على أن تهيئة الأرضية المناسبة للنساء للحصول على حقوقهن الاجتماعية تبدأ من التعليم والصحة والثقافة. وتدعو إلى فرض عقوبات صارمة ضد من يقف في وجه تعليم الفتيات، وكذلك إلغاء المواد القانونية التي تمنعهن من المشاركة الفعّالة في المجتمع.

من جانبها ترى ديما موسى أن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية تشكل الأساس الذي يجب ضمانه في الدستور لمكافحة التمييز ضد المرأة. فالقوة الاقتصادية والاجتماعية تساهم بشكل كبير في تمكين المرأة من لعب دور مؤثر في المجتمع. وتعتبر موسى أن المساواة في مكان العمل وحدها لا تكفي، بل يجب أن يتم ضمان العدالة والإنصاف، مثل تخصيص إجازة أمومة تحافظ على مكانة المرأة الوظيفية. كما تشدد على أهمية دعم المرشحات النساء في الحملات الانتخابية، وضمان المساواة في حق التملك والإرث والممتلكات الزوجية في حالات الطلاق، إذا لم يكن هناك اتفاق مسبق.

أما إيمان شحود، فتؤكد على أهمية تعزيز فرص وصول النساء إلى العمل من خلال سياسات تدعمهن، بالإضافة إلى ضرورة ضمان الرعاية الصحية، خصوصاً في مجالات الصحة الإنجابية والأمومة. كما ترى أنه من الضروري توفير بيئة عمل آمنة للنساء لضمان مشاركتهن في الحياة الاقتصادية والاجتماعية بكل فاعلية.

تعزيز الحماية القانونية للنساء في قضايا الأحوال الشخصية

في إطار تعزيز الحماية القانونية للنساء من العنف والتمييز في قوانين الأحوال الشخصية، تتفق ديما موسى وحنان زهر الدين وخلود بركة وإيمان على أهمية إعادة النظر في القوانين الحالية بشكل يضمن المساواة التامة بين الجنسين، ويعزز مشاركة المرأة في صنع القرار. وترى موسى ضرورة تحديث قانون الأحوال الشخصية ليحمي حقوق المرأة في قضايا الزواج والطلاق والحضانة، وتشدد على أهمية ضمان حقوق متساوية في حق التملك والإرث.

أما بركة، فتؤكد أن قوانين الأحوال الشخصية يجب أن تكون أكثر مرونة، بحيث تضمن للمرأة حقوقها بشكل عادل ومنصف، مع تقديم خيار تطبيق قانون مدني قائم على المساواة، ولكن في ذات الوقت، تتيح إمكانية تطبيق قوانين دينية أو مذهبية بموافقة الطرفين. ومع ذلك، يجب أن يُسمح للمرأة بتقديم استئناف قانوني إذا كانت حقوقها مهدرة.

هذا التوافق بين الآراء يُظهر التحديات التي تواجه المرأة في هذه القوانين، ويؤكد على ضرورة تعديلها بما يضمن المساواة الفعلية والعدالة لكل النساء، ويشدد على أهمية حماية حقوقهن في كل المجالات.

رؤية نساء سوريا للمرحلة القادمة

تتمثل أبرز التحديات، بحسب ديما موسى، في مقاومة القوى المجتمعية والدينية التي ترفض إدراج حقوق المرأة في الدستور الجديد، خصوصاً فيما يتعلق بالمساواة بين الجنسين والمواطنة المتساوية. هذه القوى ترى في أي تعديل تهديداً لتقاليدها وعقائدها. أما حنان زهر الدين، فتعتبر أن التحدي الأكبر يكمن في استمرار وجود نصوص تميز ضد المرأة، والتي تستند إلى مرجعيات دينية تشرعن التفاوت بين الرجل والمرأة. في المقابل، ترى إيمان شحود أن المجتمع المدني والحركات النسوية يمتلكان دوراً كبيراً في المطالبة بتطبيق هذه الحقوق وضمان عدم تحولها إلى نصوص قانونية غير مفعلة. فالحرية  في التعبير، إلى جانب العمل السياسي المكثف من قبل الحركات النسوية والمنظمات الحقوقية، تساهم في دعم هذه المطالب وتفعيلها. ويجب على المجتمع المدني أن يتعاون مع القوى السياسية لضمان وجود نصوص تحمي حقوق المرأة بشكل فعلي، وأن تكون المرأة جزءاً فاعلاً في بناء دولة المواطنة القانونية والمساواة. ختامًا، فإن الدستور السوري الجديد يجب أن يكون مبنيًا على مبدأ “المساواة الكاملة” بين الجنسين، وأن يتضمن نصوصًا تشريعية تضمن حقوق النساء في مختلف المجالات، سواء السياسية، الاقتصادية، أو الاجتماعية. ومن خلال تعزيز الحماية القانونية وتقديم ضمانات فعّالة لمشاركة النساء في صنع القرار، يمكن أن يكون هذا الدستور خطوة هامة نحو بناء دولة مدنية تحترم حقوق الإنسان وتضمن المساواة بين جميع مواطنيها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *