أ. رنا جابي
عزيزي أيها القادم من الماضي؛
نحن اليوم أمام كوكب جديد بكل ما فيه…
نحن نتعلم عبر جهاز إلكتروني صغير مليء بالأزرار والأسرار ونرى ونسمع معلمينا من خلاله ونعلّم طلابنا أيضا بالطريقة ذاتها، وبالجهاز نفسه نعمل ونتلقى الأجر الشهري..
نحن نحمل جهازًا بحجم كف اليد، يملك من الإمكانيات ما لا يتقبله العقل، حيث نرى أخبارالعالم بأكمله ونحن في غرف منزلنا ونستقبل المراسلات الرسمية خلال جزء من الثانية عبر الرسائل الإلكترونية ونصل الرحم ونستخدم آلة التصوير ونحتفظ بآلاف الصور والوثائق والملفات داخله…وننشر نتاجنا العلمي والأدبي على أوسع نطاق ودون تكلفة مادية نحن نحمل شاشاتنا أنى حللنا ونكلم القاصي والداني متى شئنا..لقد أصبح العالم قرية صغيرة بسب ما يسمى بالشبكة العنكبوتية يا صديقي…
نحن نسافر إلى مشارق الأرض ومغاربها خلال ساعات قليلة ونقود سيارات لا تحتاج إلى بترول ونملك شركات نقل دون سيارات وأسواق دون مبانٍ ونشتري دون نقود وباعة ونشرح مرضنا إلى أطباء دون عيادات نحن نوظّف معلمين دون مدارس ونقرأ كتبًا دون ورق ونزور مكتبات دون رفوف وجدران ونكتب دون أقلام ونطالع صحفًا ومجلات دون مطابع ونرسل رسائل دون طوابع وظروف ونحل نزلاء في شركات فندقية دون عقارات ونملك أصدقاء في كل بقاء الأرض يجمع بيننا الفكر والحوار ووحدة الانتماء والأهداف دون زيارات…
نحن نملك آلات تكشف ما في داخل الإنسان من أجهزة خلقية ونعرف جنس الجنين قبل الولادة…بل إن بعض هذه الآلات يقوم بما يقوم به الإنسان وينوب عنه في مهام كثيرة…
نحن في زمن يقدم البعض فيه محتوى تافه وينال أموالا طائلة بسبب ملايين المتابعين، بل وانبثقت مهن جديدة يا صديقي كمهنة صانع المحتوى مثلًا…التي دفعت الجيل الجديد على كره المدارس والتعلم ونيل الشهادات نحن بين أناس ينفقون معظم وقتهم أمام الألعاب الإلكترونية التي تسبب عجزا في الجسد والدماغ والتركيز بل وتنفي الإنسان عن أسرته ومجتمعه وتجمل له العزلة التي تؤدي إلى أمراض جسدية ونفسية لاحصر لها …
عزيزي القادم من الماضي نحن نلهث خلف المعلومة والتطور ونحاول جاهدين رأب الفجوة بيننا وبين أولادنا وطلابنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلا…فالعالم يطير من حولنا بسرعة البرق
نحن أقوام نحضن هواتفنا أكثر من أولادنا ونشاهد شاشاتنا أكثر من فلذات أكبادنا ونتابع برامج تربوية أكثر مما نربي ونعتبر العري تحضّر والشذوذ حرية شخصية بل وسأهمس في أذنك سرا بات الرجل يهز خصره كالنساء ويرتدي بدلات الرقص كالغانيات ويضع مساحيق التجميل كالدمى…
نحن في زمن يبيح فيه المرؤ لنفسه كل شيء ويحرمه على الآخرين في زمن فيه باتت العلاقات آنية مدتها ساعات قليلة قائمة على الشهوات والغرائز… لقد انقرض الحب وانتشر الحقد غاب السمو وساد السفه يا صديقي…
نحن نرتب الأقارب والأصدقاء في قوائم ونلغي المحادثة بزر واحد نحن في زمن لم يعد للخصوصة فيه مكان فالكل يقتحم عليك خلوتك ويفتح باب عزلتك بدعوى الصداقة…
نحن في زمن بات فيه الأخ ينفر ويتبرأ من أخيه زمن يقسو فيه القوي على الضعيف والميسور على المحتاج زمن باتت فيه النصحية تدخّل وفضول وبات مدعو المعرفة كثر..
نحن أقوام يشتكي كبيرنا من ألزهايمر والخرف وصغيرنا من الظلم رغم أنه يملك كل شيء ومن ضيق الوقت رغم أنه لا يفعل شيئا في زمن انعدم فيه الإحساس بالرضا والأمان نحن يا صديقي ضحايا الثورة الإلكترونية والأوبئة والحروب…
لكن؛بالرغم من كل هذا مازال هناك أناس وجودهم بلسم وحروفهم ترياق وعباراتهم وعشرتهم رقي وفائدة وسمو ورفعة وأمن وأمان ومازال هناك من يصون العهد ويحفظ الود ومن يقدر العقول والثقافة والعلم…
فهل يعقل يا صاحب الظل الطويل بأنك عشت ونعيش على كوكب واحد؟