أ.ميسون محمد

بعد سنوات طويلة من الألم والانقسام، تجد سوريا نفسها أمام لحظة حاسمة قد تكون نقطة انطلاق نحو مستقبل أفضل. هذه اللحظة ليست مجرد نهاية لنظام سياسي أو بداية لمرحلة جديدة في تاريخ البلاد، بل هي فرصة تاريخية لإعادة بناء الدولة على أسس مختلفة تمامًا، تضمن العدالة والمساواة وتحترم كرامة الإنسان. ولذا، فإن هذه الفرصة تمثل تحولًا شاملًا يتجاوز حدود السياسة ليعيد صياغة العلاقة بين السوريين ووطنهم، بالشكل الذي يعكس تطلعاتهم لحياة كريمة ومستقرة.

ومع ذلك، فإن التحدي الأكبر الذي يواجه سوريا اليوم يتطلب إحداث تغيير عميق وشامل في منهج التفكير ومنظومة العمل. فلا يمكن لسوريا الجديدة أن تنهض على إرث الماضي دون معالجة شاملة لتداعيات الحكم الاستبدادي الذي استمر لعقود وألقى بظلاله الثقيلة على كافة جوانب الحياة. لم تقتصر معاناة سوريا على الحرب فقط، بل كانت نتيجة تدهور طويل الأمد في أسس العدالة والحرية، مما أدى إلى تفكك النسيج الاجتماعي وزعزعة مفاهيم الهوية والانتماء. وعليه، فإن أولى خطوات الإصلاح الحقيقي تكمن في معالجة  الانقسامات التي مزقت المجتمع، مع العمل على استعادة الثقة بين مكوناته من خلال معالجة مظاهر التهميش بين فئات المجتمع وغياب المساءلة التي تراكمت على مدار عقود.

ومن الجدير بالذكر أن إعادة بناء سوريا لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال إشراك كافة الأطراف في عملية حوار وطني حقيقي. فالحلول المستدامة لا يمكن أن تنبع إلا من نقاشات حرة وصادقة تجمع بين وجهات نظر مختلفة وتبني رؤية مشتركة لمستقبل سوريا. ومن هنا، يصبح هذا الحوار ضرورة ملحة لخلق مساحات يُسمع فيها صوت كل فئات المجتمع السوري.

علاوة على ذلك، تبقى الثقة هي  الأساس الذي يقوم عليه أي مجتمع مستقر، إلا أن هذه الثقة تعرضت في سوريا لاهتزازات متتالية، نتيجة سنوات طويلة من النزاع والانقسامات. وهنا تجدر الإشارة إلى أن استعادة الثقة ليس أمرًا سهلًا، بل يتطلب التزامًا طويل الأمد بعملية بناء تدريجية. فالخطوات الصغيرة، مثل الاعتراف بالمعاناة التي عاشها السوريون والالتزام الصادق بمبادئ العدالة والمساءلة، يمكن أن تسهم بشكل كبير في ترميم الثقة المفقودة. ومن الجدير بالذكر أن معالجة القضايا الحساسة، مثل حقوق الضحايا ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم التي ارتُكبت، ليست فقط شرطًا لتحقيق العدالة، بل هي أيضًا وسيلة لإعادة بناء النسيج الاجتماعي.

وبالإضافة إلى ذلك، لا يمكن الحديث عن سوريا جديدة دون الإشارة إلى دور المؤسسات. إذ إن الدولة المدنية التي يحلم بها السوريون تحتاج إلى مؤسسات قوية وشفافة تعمل لخدمة الجميع. وعلى هذا الأساس، لا بد لهذه المؤسسات أن تكون مستقلة عن النفوذ الخارجي والمحاصصات الطائفية، فضلًا عن ضمانها لتكافؤ الفرص واحترام حقوق الإنسان. وبالتالي، فإن بناء مؤسسات قادرة على حماية القانون وتطبيقه بعدالة يعد ركيزة أساسية لإعادة الثقة بين الشعب والدولة.

ومن جهة أخرى، لا يمكن تجاهل الدور المحوري للإعلام في هذه المرحلة. ففي بلد عانى من التلاعب بالمعلومات ونشر الدعاية المضللة، يصبح وجود إعلام مستقل ضرورة لا غنى عنها. وليس الإعلام هنا مجرد أداة لنقل الأخبار، بل هو وسيلة لإعادة بناء الوعي الجماعي، وتعزيز قيم الحوار والديمقراطية. وعليه، يمكن للإعلام الحر أن يسهم في تقريب وجهات النظر بين مختلف الأطراف، كما يمكنه أن يصبح منبرًا للمصالحة الوطنية بدلًا من أن يكون أداة للانقسام.

إلى جانب ذلك، فإن الديمقراطية التي يتطلع إليها السوريون لا يمكن أن تزدهر في بيئة خالية من التعددية. ومن هذا المنطلق، فإن تعزيز الحراك المدني وتشجيع الأحزاب السياسية على تمثيل تطلعات الشعب السوري بشكل حقيقي يمثلان خطوات حاسمة. ذلك أن وجود مجتمع مدني نشط يمكن أن يشكل أداة ضغط على الإدارة الجديدة، لضمان أن تكون القرارات المتخذة تعكس إرادة الشعب. ومن ناحية أخرى، فإن الأحزاب السياسية مطالبة ببناء برامج ترتكز على خدمة الناس، بدلًا من السعي وراء مصالح ضيقة.

وفي الختام، لا بد من التأكيد على أن التحديات التي تواجه سوريا لا تقتصر فقط على الداخل، بل تمتد أيضًا إلى العلاقات مع المجتمع الدولي. إذ إن التعاون مع الهيئات الدولية ومنظمات حقوق الإنسان يمكن أن يلعب دورًا إيجابيًا إذا ما أُحسن استخدامه. ومع ذلك، فإن الحفاظ على المبادئ الوطنية يجب أن يظل خطًا أحمر لا يمكن تجاوزه. ولهذا، فإن هذا التعاون ينبغي أن يُدار بحكمة ليكون وسيلة لدعم التحول السلمي في سوريا، بدلًا من أن يصبح أداة لفرض أجندات خارجية.

وبالنظر إلى ما سبق، يبقى الإيمان بقدرة الشعب السوري على التغيير هو الضمانة الأكبر لتحقيق مستقبل أفضل. والمسؤولية اليوم تقع على عاتق الجميع، سواء كانوا في الداخل أو الخارج. ذلك أن إعادة بناء سوريا ليست مجرد مشروع سياسي، بل هي رحلة طويلة تتطلب إرادة وصبرًا وتضامنًا، لأنها تعني استعادة وطن فقد الكثير لكنه لم يفقد الأمل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *