أ.حازم إسماعيل السيد

امتقعَ وجهُ الرجلِ الفقيرِ، ورسمتْ الأتربةُ التي عفَّرتْ وجهَهُ مع الحزنِ الظاهرِ عليه ثنايا واسعةَ الشقوقِ اختلطتْ بتجاعيدِ السِّنِّ فبدا مثيرًا للشفقةِ والعطفِ، لكن العجيبَ أَنَّ تلك الصورة لم تحرِّكْ في قلبِ الرجلِ الغنيِّ الواقفِ على رأسِه ذرةً من رحمةٍ، فحدجه بنظرةِ كبرٍ، ورشقَه بلفظٍ ذرفتْ له عينا المسكين!

كانَ الموضعُ يعجُّ بجمعٍ من الناسِ يتابعون الموقفَ بشغفٍ لحظةً بلحظةٍ، وإيقاع الأحداث يسري عبر الزمن، بينما تكتفي العيونُ بالمشاهدة، وصاحبا المشهد: الفاعلُ والمفعولُ تماديا، هذا في غيِّهِ، وذاك في استكانتِه وضعفه!

دوَّت في المكانِ موجةٌ عارمةٌ من التصفيقِ لا ينقطع، ثم سطعت الأضواء فجأة!

كان مشهدًا يؤدِّيه الممثلُ الشهيرُ في الفيلمِ الذي يتفضَّلُ دائمًا بانتقاءِ فريقِ العمل فيه: المخرج، والمنتج، والمؤلف، والممثلين من جيلِ الشباب

أسرع الماكيير يمسحُ عن وجه النجم الوسخ والقاذورات التي غمرت وجهَه، وإِنْ كان لم يستطعْ أن يمحوَ التجاعيدَ التي أحدثتها السنواتُ ضريبةِ السهر، والكاميرات، والأضواء

انطلق النجمُ إلى حجرتِه ليخلعَ عنه أثوابَ الفقرِ ويعودَ إلى صورتِه الأولى برَّاقًا لامعًا، فائحَ العطر، مُنَمَّقًا، واندفعَ يحوطُه حرسُه الشخصيُّ يحولون بينه وبين معجبيه.. يتقدَّمونه إلى سيارتِه الفارهة، فدلفَ إليها، وغابَ خلفَ زجاجِها المعتمِ وأبوابِها المصفحةِ السوداء عن الأعين ليخلِّف لمعجبيهِ غبار الطريق، وأدخنة محركاتِها التي انطلقتْ به تزمجرُ في غضبٍ..

لم يستطعْ الشابُّ حديثِ العهدِ بالكاميرات أن يلحقَ برفيق المشهدِ التمثيليِّ الذي أسرعَ مولِّيًا، ولم ينَلْه منه، إلَّا أن امتلأت رئتيه بعادمِ سيارتِه وهو يودِّعُ مشهدِ السيارة الفخمة.. لم تسمح له الظروف أن يتجاذب أطراف الحديث معه، وتحقيق الحلم والفرصة التي انتظرها طويلًا، فما إن انتهى من المشهد حتى حاصره أمينُ المخازن لينزع عنه عهدته من ملابسٍ فخمةٍ، وإكسسوار، ثم جاء موعدُه خلفَ طابورٍ طويلٍ منالكومبارسأمثالِه ليتقاضي يوميتَهُ الزهيدةَ..

حسدته أعينُ زملائِه على ذلك المشهد الذي جمعَهُ بالنجمِ اللامعِ، وكان يمنِّي نفسَه في جواره أن يطرحَ بين يديه آماله وأحلامه، حيث النجومية والشهرة!

كانَ مشهده الوحيد معه! اجتمعا في نقطةٍ محدودةٍ، وافترقا في فراغٍ غير محدود! تبادلا الأدوارَ في مشهدٍ قصيرٍ سيبقى حيًّا في أذهان مشاهديه سنواتٍ طويلة ما دام يُبثُّ عبر الشاشات.. ستدومُ ذكراه حيَّةً لديه يتباهى بها أمام زملائه، وأقاربه، وجيرانه.. رصيدٌ من الإنجازات سيُرفعُ إلى حائطِ بطولاته المزدان بمشاهدٍ كثيرة تجمعه بالمشاهير من الأبطال والبطلات، لكنَّها لا تعدو عن كونها ذكريات! لا تملأ جيبًا، ولا تؤمِّن مستقبلًا، ولا تنبئُ يومًا عن بطولةٍ.. لا يعني التعمُّق في الشخصيتين وإتقان كليهما لدوره تغييرًا في الواقع لديهما، بل كلما زادا من إقناعهما في المشهد زادت الفجوةُ بينهما، والتصق كلٌّ منهما أكثر بأرض واقعه.. وماذا يفيدُ ممثلًا شابًّا مغمورًا كثرةُ ما يُعرضُ عليه من أدوار الثراء، وسعة الحال؟! وماذا يضيرُ النجم اللامع الكبير من أدوارِ الفقرِ، وضيقِ الحالِ؟! ما داما في النهاية سيستعيدا واقع حياتهما!

يجتمعان في مشهدٍ واحدٍ مُصطَنعٍ خلف الكاميرات، ويفترقان في مشاهدَ كثيرةٍ في سينما الحياة! وسيبقى القاسم المشترك بينهما في أعين الناس مشهدٌ وحَّدَ بينهما تختلطُ في ذاكرة الناسِ أحداثُه.. حنقٌ على رجلٍ، وتعاطفٍ مع آخر! ولن يبقَ في ذاكرةِ الناسِ إلا هذا الشعور في مشهدٍ مُصطَنعٍ يجمع بين خَيِّرٍ، وشريرٍ!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *