أ. بيبو يوسف

ترسل بصرها خلف الآفاق من مقعدها الثابت في القطار، عقلها شارد في تتبع الأشياء التي تركض من خلف زجاج النافذة، بينما هي ثابتة في مكانها، تائهة في ثباتها…
لم تفهم يومًا معضلة أن تتحرك الأشياء بسرعة جنونية، بينما الذي يراقبها يبقى في ثبات. كانت حمقاء لا تدري أنها هي التي تركض في جنون، تاركة كل شيء خلفها ثابتًا يرقب ظلها وهو يرحل.

  • كيف حالكِ يا عزيزتي؟
    تحرك رأسها لا إراديًا لتتبع مصدر الصوت الذي أفزعها واقتحم شرودها. كان الصوت يأتي من المقعد المجاور لها، والذي كانت آخر صورة في ذاكرتها له أنه كان فارغًا، لكنه لم يعد كذلك.
  • من أنتَ؟ ومتى أتيت؟
    سألت الجار المبتسم بجوارها بمرح لطيف ولكنه مربك؛ ليجيبها وهو لا يتخلى عن مرحه
  • أنا جاركِ في هذه الرحلة، وأعتذر يا عزيزتي إن كنت أفزعتكِ
    أربكها ذوقه، فقالت:
    -لا، لا تتأسف، أنا فقط لم ألاحظ وجودك.
  • هذا أمر عجيب يا عزيزتي!
  • ما العجيب؟
    -عيناكِ البنيتان لم تلاحظا وجودي، لكنهما لاحظتا كل شيء: لون قرص الشمس المنسحب الذي يودع السماء، البيوت الراكضة والحكايات الرابضة خلف الأسوار، ضحكات الأطفال، والطفلة الجالسة في الشرفة تلوح للقطار…
  • كيف عرفتَ أني أبصرت كل هذا؟
    سألته بفم مفتوح وعقل لا يصدق قدرته على تصوير ما رأته هي. أجابها بابتسامة صادقة قائلًا:
    -أجلس بجواركِ منذ مدة لا بأس بها، وأدركت أن عينيكِ الرقيقتين فضوليتين، تُبصران أشياء لا تبصرها العيون الأخرى. تتركان المظهر وتبحران في المعنى، يعجبهما المخفي وتهملان الظاهر الذي يراه الجميع…
    كانت تنظر إلى الجالس بجوارها بنوع من التعجب، أو لنقل الخوف. فإنسان يستطيع الغوص في أعماقك وقراءة أفكارك، فهذا أمر مثير للإعجاب وأيضًا للخوف. ومع كل هذا، تمعنت في وجه هذا الغريب ووجدت أنه لا شيء في ملامحه يجعله مخيفًا. هو يتحدث ببساطة تملأ الأجواء باللطف. ويبدو أنه قرأ حيرتها المتأرجحة بين الخوف والإعجاب، فقال:
  • أعتذر إن كان حديثي فظًا وضايقكِ، ولكني أردت أن أشارككِ الطريق والشرود في التفاصيل. ربما ستصنع أحاديثنا حكايات فيما بعد يا عزيزتي.
  • لماذا؟
    كلمة مقتضبة، ولكنها أربكته. فسأل مرتبكًا:
  • لماذا… ماذا يا عزيزتي؟
  • لماذا تناديني «عزيزتي»؟ نحن لم نلتقِ من قبل! وهذا لا يفسر لي لماذا تبدو مرتاحًا معي في الحديث هكذا…
  • لن تصدقيني إن قلت «لا أدري»، ولكن منذ اللحظة التي جلستُ فيها بجواركِ ورأيتُ شرودكِ، أردت أن أشارككِ الحديث. أنا الذي في العادة أتلعثم وأعيد ترتيب حروفي مرارًا وتكرارًا، يربكني أن أحدث الغرباء، ولكن منذ اللحظة الأولى لم تكوني غريبة بالنسبة لي… كنتِ عزيزتي…
    نظرت في عينيه وهي تشعر أنها تصدقه، ولا تدري لماذا تصدق غريبًا يتشارك معها مقعدًا في القطار، في رحلة لا تدري إلى أين ستصل بهما؟!.

من rana

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *