د.محمود أبو الهدى الحسيني
رابطة الأدب الإسلامي العالمية- رئيس المكتب الإقليمي في سورية
امتزج في حضارتنا (الحسيُّ المادّي بالمعنويِّ القيَميّ)
وحين يترافق في الإنسان البناءُ أو الإنتاجُ المادّي مع معززاتِه المعنويّة ترتفع نوعية الإنتاج، وتزداد قوةُ محفّزاته ..
أذكر على سبيل المثال من صفحات أمسنا المشرقة قصةَ الحصنِ الدفاعيّ الذي أنجزه أصحاب النبي بتوجيهٍ منه، واستجابةً لفكرةِ سلمان الفارسيّ، يومَ حفروا خندقًا يحيط بالمدينة المنوّرة، يحميها من هجومٍ كبيرٍ مرتقَبٍ عليها..
كان إنجاز ذلك الحصن الدفاعيّ الكبيرِ عملا شاقّا؛ لأنّ أدوات الحفر التي نعرفها اليوم لم يكن منها في ذلك الزمان شيءٌ، فكان العملُ بالمعاول اليدوية في أرضٍ صخريّةٍ شديدة القساوة، لصنعِ خندقٍ حول مدينةٍ عملًا مضنيًا مجهِدًا، وكانَ النبيّ صلوات الله وسلامه عليه يشاركهم في حفر الخندق، ويعينهم فيما عجزوا عنه عند ظهور الصخر البركانيّ وأشباهه من الأحجار القاسية جدًّا..
وأتوقّف عند جزئيّةٍ من القصّةِ لأستمدّ منها الفكرة المنهجية..
فقد أخرج البخاريُّ رحمه الله في صحيحه عن الصحابيّ الشابّ المقرّب للنبيّ الكريم (أنس بن مالك) رضي الله عنه أنّ (الأنصار) من أصحاب النبيّ كانوا يرفعون أصواتهم بالإنشاد الجماعيّ وهم يحفرون الخندق ويرددون معًا:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدا… علَى الجِهَادِ ما حَيِينَا أبَدا
كان (الإنشادُ) الغنائيّ بما يتضمنه من:
– معانٍ قيَميّة
– ونغماتٍ منبعثةٍ من واقع المعاناة
كان ينسيهم التعب والمشقّة في عملهم المضني، ويبعثُ فيهم روح الأمل، ويمزجُ هممهم بنشاطٍ وحيويّةٍ وانبعاث..
ومن هناك أعودُ إلى واقعنا البائس المحبط الذي يعيش جيلُه سوداويّةَ الشعورِ بالهزيمة، ويعاني من علّة توهّم العجز والشلل الحضاري لأقول: (ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ)
فقد غابت مادة (النشيد) عن المناهج المدرسية في بعض بلداننا العربية، وأصبحت فكرة الإنشاد مستبعدةً اجتماعيًّا مع استحواذ (العقلانيّة والمادّية) على السلوك النخبويّ والاستخفاف بالــ (الخُلُقيّ والعاطفيّ والروحيّ) وزاد الطين بللًا طغيان (الميكيافيللية) السياسية، حتى كادت نخبنا المجتمعية تتحول إلى أحجارٍ على رقعة الشطرنج تتحرّك وعيونها على (الشاه) لإسقاطه وابتداء لعبة جديدة ..
نحن يا سادة أصحابُ حضارةٍ يمتزجُ فيها العقلانيّ بالعاطفيّ بالروحيّ بالمادّيّ بالخُلُقيّ، ونهضتُنا تتعثر مسيرتها ما لم تحمل المزيجَ الحضاريّ بتمامه غير منقوص ..
وعنصرُ النشيدِ إن لم نكن اليوم قادرين على بثّه في المجتمعِ لأسبابٍ عدّة – لا يتسع مجال المقال لذكرها- فلا أقلّ من إعادة إدراجه في إعداد الجيل الناشئ تعليميّا وتربويّا، وأزعمُ أننا نستطيع من خلاله إدراج كمٍّ كبيرٍ من الآداب والأخلاق والقيَم، بل ومن كثيرٍ من العلوم.