أ. روضة المحمّد

ليست امرأةً عاديةً ككلّ النساء، كلّ ما فيها يدعوكَ للنفور والاشمئزاز منها، نظرتها المخيفة، ابتسامتها المريبة، فلجة أسنانها، حاجباها المعقودان.

لم يكن مظهرها الشيء الوحيد الذي يثير قلقي وتوتري، فلمجرد رؤيتها يتعكر مزاجي ليوم كاملٍ وقد يمتدُّ ليومين أو ثلاثة.

فعلى الرّغم من أنّي لستُ من أصحاب النّظرة التّشاؤمية للأشياء أو الأشخاص إلا أنّه لم تمرَّ أيُّ صدفة جمعتني بها دون كلمة ساخرة أو تعبيرات شامتة أو نظرة تهكمية من طرفها وكأنّنا أعداء حتّى وجهها المألوف بالنسبة لي لا يوحي بالراحة والاطمئنان.

كانت المرّة الأولى التي جمعتني بها في زفاف ابنة عمي هيفاء، جلستْ تراقبُ كلّ من حولها دون أن تشارك في مظاهر الفرح حالها حال المُرغمة على الحضور؛ تصفيق بلا روح، نظراتُها تطوف حولي، ترمقني باستغراب وكأنّها تعرفني، أتطلعُ إلى نفسي أتراني أرتدي شيئًا ليس مناسبًا للحفلة لا يواكب آخر صرعات الموضة، أم أن شكلي يحتاج لترتيب؟

أُخْرِجُ مرآتي بتوترٍ من محفظتي، أعاين نفسي بتمعّنٍ، كلُّ شيءٍ يبدو طبيعيًّا، شعري، مكياجي، أحمر الشفاه الوردي، هندامي..

أعدت الكَرَّة مرّةمرّتين وثلاثة، تأكدتُ ألّا شيءَ يثير استغرابَها ونظراتِها تلك إلا أنّي صُدمتُ بها تقف بجانبي كأنّها خيمة سوداء نُصبَتْ فوق رأسي وهي تتمتم لي بتهكمٍ:

الحظُّ الجميل يرافق الجميلات منذ ولادتهن وحتّى مماتهن.

تلفتُ حولي، ما من أحدٍ غيري،

أتراها تقصدني بكلامها؟

وهل أبدو قبيحةً لدرجة أنّي لم أحظَ بما حظيتْ به هيفاء وقبلها سحر ابنة خالتي؟

هه، ومن أين لها أن تعرفني حتّى ترميني بسهامها؟

يالسخرية القدر!

غادرتُ الحفلة وفيّ أثرٌ من كلامها لا أنكر، لكنّي لم أعطِ للموضوع أهمية كبيرة، نسيتها ونسيتُ الموضوع، لكن لم أتوقع أن تجمعنا الصدفةُ مرّة أخرى.

كيف وأين ومتى؟

في الحافلة، بعد أن طردني صاحب العمل من وظيفتي، حينها جلسَتْ في المقعد الذي أمامي، وجهاً لوجه هذه المرة، تمضغ العلكة وهي تصدر أصوات مزعجة متعمدةً إثارة غضبي، حينها بدأ الشّك ينهش رأسي،

هي تعرفني لا محالة، لكن ذاكرتي لا تسعفني لاستحضار صورتها واسمها.

فتحَتْ حقيبتها وهمّتْ بدفع الأجرة عني وعنها، ثم قالت:

تردينها لي عندما تجدين عملاً آخر يا حلوة.

ولكن كيف عرفت أنّي طُردتُ من عملي؟

هل تراقبني؟

أم أنّها هي السبب في فصلي من عملي؟

تصرفاتها باتت تثير قلقي أكثر، إذ لم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، ولم أتصور أنّها ستعود وتظهر لي وذلك في اليوم المشؤوم الذي تركني فيه حبيبي، حقيقةً ليس سهلاً أن يُهدم البيت الذي رسمتُه في مخيلتي، وحفرتُ على جدرانه أسماء أبنائنا الخمسة، شعور صعب أن أجهض قبل أن أحمل، وأن أداوي جرحي بصمتٍ لوحدي.

كنتُ بحاجة لحضن يجمع شتاتي ويد تربّت على كتفي، لكنّها ظهرت بوجهها القبيح مثل كلّ مرة كمن يصب الزيت على النار.

جلستْ بجانبي، لكزتني من خاصرتي، ثم غمزتني مستهترة:

كلُّ الرجال في الحبِّ من صلب إبليس، توقفي عن رسم الأجنحة لهم، فهم بشر وليسوا ملائكة يا عزيزتي.

ماذا تريد مني تلك المرأة؟

فهي لا توفرُ موقفاً أو حادثةً إلا وأظهرَتْ فيها العِداء أو الشّماتة بي وكأنّها تريد أن تنتقم مني.

لكن لماذا؟

أيعقل أنّها إحدى زميلاتي في المدرسة سابقاً؟!

هل هي سمية التي أبلغتُ عنها المعلمة وضبطتْها وهي تغش، ثم مُنعَتْ من تقديم الامتحان لمدة عامين، أم أنّها دعاء التي تركتْ حبيبها لأجلي فانتحر؟

أو ربما سهير التي حصلت على أعلى علامة في فحص المقابلة ورُفضتْ هي، وأخذت أنا الشاغرلا لشيءفقط لأنّيابنة المعلم“.

وفي حال أنّها تعرفني حقاً، لماذا لا تُعرّف بنفسها وتذكر السبب الذي دفعها لملاحقتي والانتقام مني؟

أيعقل أنّها تفكر بقتلي، وما هذه إلا وسائل لتستمتع برؤيتي وأنا أتعذب ثم تقتلني ببطء، أم أنّها امرأة تعاني من مرض نفسي؟!

أسئلة كثيرة باتت تطرق رأسي ولا إجابة لها،

يجب أن أضع حداً لها في المرة القادمة فوجودها أصبح يشكل خطراً على حياتي.

مادامتْ كما تقولين تفكر بقتلك، لِمَ لا تبلغي عنها الشرطة؟

لكنّي لا أعرف اسمها ولاحتى عنوانها، هي في كلّ مكان، لكن لا مكان لها.

لماذا تنظرين إليّ هكذا؟

أتظنين أنّي مجنونة؟

لا، لكن يجب أن تدافعي عن نفسك ما دمتِ لا تعرفين اسمها ولا حتى عنوانها.

مدّت يدها إلى جيب معطفها، أخرجتْ مسدساً ودسّتْهُ في جيبي.

انتفضتُ، وقفتُ، أخرجتُه من جيبي مذعورةً:

وهل يوحي شكلي بأنّي مجرمة؟!

أخفظي صوتكِ واجلسي.

ومن قال إنّك مجرمة؟!

هو دفاع عن النفس لا أكثر.

جلستُ، فكرتُ، تأملتُهُ لثوانٍ، أرجعْتُهُ إلى جيبي وشعور الراحة يملؤني، فوجود المسدس بجيبي بمثابة صمام الأمان وقد يحميني من أيّ موقف مفاجئٍ.

في طريقي إلى البيت، تخيلتُ كيف سيكون لقاؤنا القادم، وكيف سأواجهها، وأعرف سبب ملاحقتها لي.

سأكون المبادرة هذه المرة، لن أترك لها فرصةً لكي تسبقني بالكلام أو تباغتني بأيّ تصرف غير لائقٍ.

فتحت باب المنزل ودخلت وأنا أدندن بشغفٍ، كلُّ شيء كنتُ أتوقعه إلا أن يكون لقائي بها بهذه السرعة، فهي تتمدد على سريري، ترتدي ملابس نومي دون استئذانٍ وكأنّ البيتَ بيتُها وأنا الضيفُ غير المرغوب به الذي قطع عليها خلوتها.

وقبل أن أنبس بكلمة واحدة، مشتْ نحوي، شدتني من كتفيّ ثم لطمتني على وجهي وصرخت بوجهي:

من أنتِ؟

وماذا تريدين مني؟

ومن سمح لك أن تدخلي منزلي.

أخرجتُ المسدس وصوَّبته نحوها ومن دون تفكير رميتُها بطلقتين، ليرتطم جسدها بالأرض على إثرها، أحسستُ أن جزءاً مني فُقد، وأنالآهالتي تلي التّوجع والألم تنْخرُ خاصرتي، اقتربتُ منها وتمثلتها جيدًا لأتأكد من موتها، أيقنت لحظتها أنّها جثتي،

تارةً ألمسها، وتارةً ألمسني وأنا في حيرةٍ من أمري، أهذا الذي يسيل دمي أم دمها؟!

جثوتُ على ركبتيّ وأرخيتُ يدي، لأستلقي بجانبها، مسحتُ على شعرها، لمستُ تفاصيل وجهها ثم غفوت.

في الصباح نهضنا معاً، هي تتمدد على سريري، تلفُ ساقاً على ساق، تمصغ العلكة وتضحك ساخرة، وأنا مازلتُ أجلس القرفصاء وأحتضنني، ثم أنظر للمرآة وأسأل نفسي:

أيّهما أنا، القاتلة أم المقتولة؟!

مذكرات امرأة إرهابية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *