ميدان الشــــــــهداء
الأعمده الخرسانية تملأ الميدان والمنطقة المحيطة تبدو وكأنها شواهد قبور .. أشــــجار الميدان عارية تمامًا من الأوراق كما لو كنا في فصل الخريف ..ولكنه لم يكن كذلك..!
عصــــفورٌ كســــولٌ فقد معظم ريشـــــه من سوء التغذية .. ترك الريف والخضرة والغذاء الوفير وجــــاء إلى المدينة ليبني بيتــــــه فوق عامود كهرباء عاري الأســـلاك ما جعله معرضا للخطر طوال الوقت !!..
الشـــوارع مزدحمة بالســـيارات المســــرعة.. ولا مكان على الأرصفة لسير المارة وكأنهم خسروها في معركتهم مع الباعة الجوالين .. أراد أحد المارة مزاحمة الســــيارات في عبور الشـــارع فانهالت على رأســـــه ألسنة الناس تنعته بأســـماء الحيوانات كلها دون دهشة من أحد!! ..
أصوات الصياح تتصاعد مع الغبار فتصطدم بشـــبكة ضخمة من أســــلاك الكهرباء والتليفونات المتشابكة..آلاف من البشـــر تتحرك من جانب إلى الجانب الآخر والعكس .. لتصـــب كلها في نهر الطريق أمام أحد باصات النقل العام الممتليء لدرجة أنك تشعر بأن أحشاءه قد خرجت من مكانها.
أصـــوات احتكاك عجلات ســــيارة تتلوى على الإســــفلت بقوة….أعقبها صرخة ســـيدة شــــابة ســـقط ابنها .. توقف ســــيل الســــيارات .. ومدت الأم يدها وانتشــــلت صغيرها من الطريق وأخذت تفتش في جســـــده وكأنه وُلِد َمن جديد..
جلس العصـــفور الكسول منتوف الريش بجوار عربة الفول والفلافل في الميدان يلتهم ما تبقى من الآكلين .. وما يراه ملائمًا للشـــبع..ولكنه -العصفور- لم يحتمل رائحة الزيت المحروق فاعتلى “الترام” الأصــــفر رقم “11” المتجه إلى “عزبة سعد” ليقضــــي بقيه يومه في النزهــــــة ..
تلاميــــذ المدارس بملابســـــهم الرماديه يملؤون المكان صخبا .. يتحدثون بأصوات منفرة- فمعظمهم شارف على البلوغ – ويتصـــرفون بشراسة وقســــوه شـــــــديدة!! ..
عناوين الصـــــــحف البائسة تخــــرج لســــانها للمــارة ..أحداث العنف واصطدام القطارات وغرق العبّارات يحتل الصفحات الأولى ..طويت الصــــحيفة ووضعتها تحت إبطي واتجهت إلى حديقة الميدان .. خطوت فوق الســــور الخشــــبي فأنا لا أعرف حقا أين يوجد باب الحديقة .. وتوجهت ببصـــري إلى الكراسي الخشـــــبية العديدة أتفقدها وأتفقد من اعتاد الجلوس عليها .. أراهم كما هم كل يوم كل منهم في مكانه.. الحمد لله لم نفقد أحدًا اليوم .. الصمت يملأ ما تبقي من مقاعد فارغة ..في المنتصــــف نَصْـــب حجــــري منخفض لتخليد الشـــهداء الذين استشهدوا في حروب الوطن الكثيرة..
ولكننا نســـــيناهم بعد أن نســــينا تضحياتهم .. وأصـــبحوا مجرد موتى, وذكرى لأهليهم ولمن أحبوهم ..
مزق الســــكون نوبة صرع أصابت أحد الجالســــين فأخذ ينتفض كالذبيح .. تجمّعنا حوله ودون أن ينظر أي منا إلى الآخر .. أمســــك كل منا بالمكان الأقرب له من جســــــد المسكين ..وأخذنا نقترب من بعضــــنا البعض حتي أحطنا به من كل جانب .. دقائق قليلة وخارت قواه ثم انتهى إلى بكاء طويل متصــــل .. فتفرقنا من حوله دون أن ينظر أحدنا إلى الآخر وكأن شيئا لم يحدث ..
ولم لا فالجميع منهكون متعبون جردوا من كل شيء خارج الســـياج الخشــــبي ..فهم ليســــوا فقراء فقط ولكنهم فقراء وبلا أمل ..أيديهم خالية و رؤوســــهم أيضا..ترى أثار المعارك في أخاديد طويلة على وجوههم وصدورهم..
إنهم هنا فقط لكي يســــتريحوا ويلتقطوا أنفاســــهم .. دائما هم متخلفون عن الركب حتى و إن أرادوا فلن يلحقوا به أبدا ..ولكنهم لا زالوا يعيشــــون وهذه هي مشــــكلتهم الحقيقة إنهم يعيشون .. قد يكونون موتي فعليًّا …ولكنهم يتنفســون وأحيانا يأكلون ويشربون ويتناسلون ..
وتعجبت بشــده وأنا أنظر اليهم وتســــاءلت من هم الشــــهداء حقا ً؟
من هزمتهم الحياه وســلبتهم أحلامهم وإرادتهم …أم من ماتوا في ميادين القتال..؟؟
إن أســــهل المعارك ما يمكن أن تخوضه في ميدان القتال..

من admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *