أ.رنا جابي
خُلق آدم ليعيش في الجنة مدة لا يعلمها إلا خالقه سبحانه ليعلمه أسماء الأشياء عن طريق الاستماع… ورغم أن القلم كان أول المخلوقات إلا أن الوثائق التاريخية أثبتت بأن إدريس -عليه السلام- أول من خط بالقلم وهذا يعني أن التواصل بين البشر قبل اختراع الكتابة كان يعتمد على الاستماع والتحدث فقط…
وكان سليمان -عليه السلام- يعتمد على الاستماع في فهمه للغة الطير والحيوان والجن فنبرة صوت الهدهد كانت تنبئ بالأخبار كصوت المراسل في أيامنا هذه وموسى-عليه السلام- اعتمد على الاستماع يوم كلمه الله -سبحانه- أما مريم بنت عمران التي وقفت أمام قومها حائرة مشيرة إلى وليدها -بأمر من الله- ليكلمهم وهو في المهد صبيا ..ليكون صوته -عليه السلام- برهانًا على براءتها ورحمة حمتها من ألسنة قومها بينما كان صوت الصيحة عقابًا وسخطًا من الجبار-سبحانه وتعالى- على قوم عاد وثمود..
وقد نزلت الرسالة على النبي الأميّ يوم البعثة مشافهة حيث أدرك سيدنا محمد -ص- حينها أن اقرأ فعل أمر إلهي من خلال نبرة الصوت كما اعتمد محمد (ص) على الاستماع في تعليم قريش التي كانت الأمية تنهشها أما لقمان -عليه السلام- فقد أدب ابنه وعلمه آداب الحديث وحدد له قواعد الصوت في الآية الكريمة:»واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير»
ولأننا قوم حضارتنا لسانية ولغتنا هي الأجمل والأثمن بين لغات الكون..كان التنغيم الصوتي سببا في دخول سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في االدين الحنيف عندما سمع صوت أخته تتلو مع زوجها صورة «طه».
كما كان الأذان بصوت بلال الساحر الأخاذ سببا في دخول الكثير من الصحابة في الإسلام، وكم تميز العربي في قراءة القرآن بسبب نبرة صوته وبُعدها عن اللحن..
وقد كان للاستماع حصة الأسد في الحركة الثقافية فشعراء الجاهلية كانوا يعتمدون على مهارتي التحدث والاستماع في نشرهم لشعرهم الذي تناقلته العرب دون قلم وورقة فكم ضجت أسواق العرب التجارية بأصوات الشعراء «كعكاظ» الذي كان مرتعًا خصبًا للنتاج الفكري وواحة لرواد الأدب يتبادلون فيها الثقافات مستخدمين مهارتي التحدث والاستماع فما كل نتاج أدبي كان يكتب ويعلق على جدران الكعبة فالنتاج الشعري الشفوي كان يفوق الكتابي بآلاف المرات..وقد استخدمت نبرة الصوت في أغراض اقتصادية أيضًا فالبائع التي كسدت بضاعته ثم شرع يغني بصوت جميل أمام دكانه: «قل للمليحة في الخمار الأسود ماذا فعلت بناسك متعبد» لم ينته يومه حتى باع كل ما كسد من الخمار الأسود.
وقد حظيت نبرة الصوت باهتمام بالغ بين صفوف الشعراء على مر العصور
فكانت الأبيات التالية:
أدمنت صوتك والإدمان أذواق
فالعين تعشق والآذان تشتاق
في رنة الحرف أنغام وسلطنة
كذلك الصمت أسرارٌ وآفاق
وقيل:
في صوته ذاب الجمال عذوبة
لله صوت الجمال ما أحلاه
في حين بنى الشاعر بشار بن برد صفات الشخصية الجسدية والنفسية في شعره من خلال نبرة الصوت في غياب حاسة البصر معتمدا اعتمادا كليًّا على الاستماع حيث كان له البيت الشهير:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة
والأذن تعشق قبل العين أحيانا
والأمر ذاته ينطبق على شاعر الحكمة والفلسفة أبي العلاء المعري
أما ابن الرومي فقد كان له أجمل القصائد في وصف صوت «وحيد» حبيبته مثبتًا للعالم أن نبرة الصوت وحدها تكفي لتكون شرارة لقصة حب شهد عليها تاريخ الأدب العربي:
مدَّ في شأو صوتها نفسٌ كا
فٍ كأنفاس عاشقها مديد
فتراه يموت طورًا ويحيا
مستلذًا بسيطه والنشيد
كما كانت نبرة الصوت عند طه حسين (الكفيف الذي اعتمد على صوت حبيبته وزوجته سوزان) سببا في تفوقه وعودته إلى بلاده ليحتل مراتب علا في الأدب العربي
في حين تناول بعض الشعراء أصوات الطبيعة حيث قال محمود حسن إسماعيل واصفًا النيل:
يا نيل يا ساحر الغيوب
سمعت في شطك الجميل
ما قالت الريح للنخيل
وقد احتلت نبرة الصوت مكانة رفيعة في مجال نشر النتاج الأدبي في عصر يشتكي من شح القراء فالتنغيم في موسيقى كاظم الساهر وصوته المصحوب بالإحساس الصادق أعاد للقصيدة مكانتها وأوصلها إلى جيل يشتكي من فهم الفصحى..
بالإضافة إلى بعض الملحنين كسيد مكاوي وعمار الشريعي الذين أغنوا المكتبة العربية بجميل الألحان معتمدين على مهارة الاستماع بسبب فقدانهم البصر أما في مجال الدراما؛ فقد قدمت الإذاعة المصرية أعمالا ما تزال راسخة في وجدان المواطن العربي فلو سألنا آباءنا لنقلوا لنا أحداث تلك الروايات التي كانت تثير في أدمغتهم الخيال ليرسموا أحداثًا تبقى راسخة في الذاكرة وكأنها مرئية ولو تذكرنا حكايا الجدات لوجدنا أن أعظم الأعمال الفنية نقلت لهم عبر أسطوانات تملك من نقاء الصوت ما نفتقده نحن اليوم في حين يشحن صوت الموسيقى في أفلام الرعب مشاعر الخوف في أعمال غاب عنها الحوار بينما يعيد إلينا سماع كلمة «تيتانك» ذكرى قصة حب عظيمة ذات نهاية حزينة.
ومن المسلسلات الإذاعية التي جمعت المجتمع السوري بأكمله حول المذياع «حكم العدالة» الذي كان ينقل لنا قصصا حقيقية من ملفات القضاء السوري وعبر نبرة الصوت كنا نرسم صورة المجرم وأحداث الجريمة وقاعة المحكمة، ونميز بين صوت الدفاع والمدعي العام ووجدنا أن نبرة صوت القاضي أثناء الجلسة تختلف عنها أثناء النطق في الحكم
فنبرة الصوت تبث للدماغ ذبذبات تنبه الإدراك السمعي وتربط بينه وبين فهم الحدث فبكاء الرضيع تنبيه للوالدين ونبرة صوت الحاجب في المحكمة قائلًا:»محكمة» ينبئ ببدء الجلسة ونبرة صوت المذيعة في برنامج»مرحبا يا صباح» يرتبط بالوقت ونبرة صوت المذيع في «هنا القاهرة» يرتبط بقضايا الشارع المصري وصوت مقدمة المسلسل الإذاعي الكوميدي «صابر وصبرية» يرتبط بالابتسامة وصوت العصافير ينبيء بقدوم أجمل الفصول..
كما أن لنبرة الصوت ارتباطا وثيقا في جفرافية اللهجات فأهل مصر مثلًا يتميزون بنبرة صوت تختلف عن أهلنا في السودان وأهل العراق تختلف أصواتهم عن السوريين..
كما ترتبط نبرة الصوت بثقافة الشعوب فالعرب والإيطاليون مثلًا يتميزون بالصوت العالي في حين تتميز شعوب الشرق الأقصى بالحدة في اللفظ وعلو الصوت ولو رأيتهم لظننت أنهم في عراك دائم…
وأيضًا تؤثر ثقافة الشعوب وبيئتهم على فهم نبرة الصوت والقبول أو النفور منها فصوت البوم والغراب نذير شؤم واشمئزاز عند العرب بينما يعتبر البوم رمزا للحكمة عند الأمريكيين كما يشكّل صوت الناي شعورًا بالاسترخاء والأمان عند الراعي وخرافه بينما يثير الشجن والحزن لدى بعض البشر..
ولو بحثنا في مساحة تأثير نبرة الصوت على المخلوقات وسببها لوجدنا بأن السمع أول حاسة تحيا وآخر حاسة تموت وهي الحاسة الوحيدة التي لا تنام بل تنبه باقي الحواس وهي العامل الرئيس في اكتساب اللغة فالجنين يسمع صوت والدته قبل ميلاده ويميز صوت والده بعد الولادة ثم يبدأ دماغه ببناء المخزون اللغوي عن طريق استقبال المفردات وتخزينها معتمدًا اعتمادًا كليًا على مهارة الاستماع ثم يبدأ بالاستجابة الجسدية فيظهر فهمه لما يستمع عن طريق الحركة وتنفيذ الأوامر كـ (أغلق الباب، اشرب الحليب، قبّل جدتك) ويبقى على هذا الحال من الاكتساب اللغوي إلى أن تتكون في دماغة حصيلة لغوية تعينه على التحدث فيبدأ بحروف غير واضحة وغير منتظمة ويتدرج بالمستوى اللغوي إلى أن يصل إلى الطلاقة بعد تدريب مستمر من كل من يحيط به ثم تبدأ مرحلة التعلم ..
وقد تؤثر نبرة الصوت في البيئة المحيطة على نشأة الطفل وتطوره لغويا فالطفل الذي ينشأ في بيئة مشحونة يسودها الصوت العالي يتأخر لغويا بسبب المشاكل النفسية والرعب الذي يسكنه عكس الطفل الذي ينشأ في بيئة مسالمة وهادئة ..
وبعد دراسة أنماط «فارك: للتعلم نرى أن المتعلم الذي يعتمد على الاستماع يتأثر انتباهه وتحصيله الأكاديمي سلبًا بسبب تأثير الصوت على مسامعه لذا أدرج المختصون «الضجيج» ضمن أنواع التلوث البيئي.
ولكن هل تؤثر نبرة الصوت على السلوك والمشاعر؟
لو بحثنا في رد الفعل السلوكي لوجدنا أن صوت الموسيقى في العروض العسكرية أشد أثرًا على انضباط العرض من أوامر القادة ولو اختبرنا تأثير الموسيقى السريعة على نتائج العمل لوجدنا أنها تزيد من سرعة الإنتاج وتزيد التوتر والضغط النفسي لذا يحذر المختصون من سماعها أثناء قيادة السيارة منعا لحوادث السير في حين تثير نبرة صوت الإمام في الخطب العصماء حمية المصلين قبل المظاهرات المناوئة للحكم ونرى أن نبرة صوت الحاكم الذي يبدأ بكلمة أيها الأخوة المواطنون تدفع المستمعين إلى تلقي ما يتبعها من كلمات وأوامر بروح رحبة ونرى أن نبرة صوت المعلم الدافئة -قائلًا: «يا أبنائي»- تمهد له طريق الوصول إلى قلوبهم وتنفيذ أوامره وتكون عاملًا رئيسا في توصيل المعلومة…
وهناك بعض ردود الأفعال السلوكية التي تنتقل بالعدوى كصوت الضحك أثناء حضور مسرحية كوميدية مع مجموعة أشخاص فالكل يضحك حولك لذا تصاب بعدوى الضحك بالإضافة إلى أن نبرة الصوت تثير الذاكرة البصرية فالدماغ يستحضر صورة المنادي فنعرف من هو من نبرة صوته دون أن نراه…وعندما نسمع صوت العظيمة أم كلثوم يستحضر الدماغ فورا صورتها..
وقد أثبتت الوقائع بأن نبرة الصوت تؤثر على الحيوانات أيضًا فقطة صديقتي ترمش لصاحبتها بعينها عندما تسمع صوتها والقوافل لا تقوم بثقيل الأحمال إلا إن علقت الأجراس برقابها بل قد يصل تأثيرنبرة الصوت إلى أخطر من هذا فأصوات الأجراس التي علقت في رقاب الفيلة في معركة الجسر كان سببًا رئيسًا في جفول الخيول العربية وخسارة جيش المسلمين أمام الفرس خسارة بيّنة.
وقبل اختراع جهاز الكشف عن اسم المتصل هاتفيا كنا نعتمد على نبرة الصوت التي تختصر الصفات الجسدية والنفسية للمتصل فنعرفه من كلمة «ألو» وهذا دليل قاطع بأن لكل منا بصمة صوتية مميزة عن غيره…
وبعد سيادة الشبكة العنكبوتية أصبح من حقنا اختيار الصوت الأكثر قربا لمسامعنا في الكتب المسموعة والفيديوهات المرتبطة بمناهجنا الدراسية وخرائط الطرق وباتت الشركات تتبارى في اختيار الصوت الأكثر جذبا في الذكاء الاصطناعي لتعينهم نبرة الصوت على ترويج البضائع وتحقيق أكبر المكاسب وبعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وطغيان الرسائل الكتابية انتشرت الخلافات بسبب الفهم الخاطئ لعبارات الحوار اليومية بالإضافة إلى أن الرسائل الكتابية تتطلب وضع علامات ترقيم لتوضيح المعنى المراد بينما نبرة الصوت تنوب عن أسلوب التعجب والنهي والاستفهام والأمر وعلامات الترقيم دون أي عناء وبوقت أقصر في عصر ابتلعتنا فيه ساعة الزمن المسرعة..
ولأن لغتنا أغنى لغات العالم وأجملها جعلت لكل صوت اسمًا بعينه فكان الزئير للأسد والهديل للحمام والحفيف للشجر والخرير للماء والصرير للقلم وكان الصوت الهادل والدافئ والشجي للإنسان ينشق منها نبرة القراءة ونبرة التعليم..
ولو تأملنا أصواتنا لوجدنا بأنها مرتبطة ارتباطا وثيقا بمشاعرنا وتقلباتنا المزاجية فنبرات أصواتنا أرواح تتحرك وتعبر عن الفرح والحزن والمرض والغضب بحرفية مدهشة أما اللحظات الرومانسية فلها نبرة صوت مخملية مترفة تحيط الحبيبين بالكثير من الدفء والفرح وتخترق جدار القلوب بهمس ساحر ليكون صوت من نحب تغريد بلابل ووشوشة عصافير..