أ.رنا جابي

كيف لتلميذة مثلي أن تقف أمام شموخ قاسيون وهرم الشعر وعذوبة الفرات وكيف أكون في حضرة من اخترع أبجدية جديدة للحب وكتب معجمًا لغويًّا يفوح بعطر الياسمين الدمشقي وكيف أتكلم عمن يسري حب الشام في شرايينه ودمه بحروفي المتواضعة؟

نزار الذي ولد في آذار من عام 1923 …ليكون ربيعا لقلوبنا وولادة جديدة للحب والكلمةالذي وشى دواوينه الشعرية بحب المرأة وجعل حريتها قضيته الأولى رافضا بذلك السلطة الأسرية التي تفرض على الفتاة الزواج ممن لا تحب محطما قيود مجتمع يحرّم الحب على المرأة بسبب موت أخته متأثرة برفض الأسرة زواجها ممن تحب..

نزار الذي تربى في حضن بيت دمشقي عريق تملؤه الورود والرياحين ويتوسط باحته بركة ماء جميلة وتعبق نسائمُه برائحة البن والهيل وتجري في أزقته قطة وديعة كانت عينه مرآة تصدّر الجمال…

فمن مثله يرسم البيت الدمشقي بريشة معطرة تحاكي الوجدان السوري حين قال؟:

للياسمـين حقـوقٌ في منازلنـا..

وقطة البيت تغفو حيث ترتـاح

طاحونة البن جزءٌ من طفولتنا

فكيف ننسى؟ وعطر الهال فواح

في بيئة رغدة ميسورة الحال تربى الحقوقي والدبلوماسي نزار قباني فكان منعما مكرّما، ورغم يسر الحال لم يجلس في قصر عاجي منعزلا عن قضايا البلاد فقد كان والده توفيق قباني يملك معملا للحلوى وسياسيا مهتما بقضايا بلاده وكان بيته ملتقىً للزعماء والمفكرين الذين كانوا يخططون للخروج بمظاهرات ضد الاستعمار الفرنسي.. وكان يقول مفتخرا: أنا كأبي أصنع الحلوى والثورة معا، وكان يعتبر السكوت مؤامرة وتبنًى قضية أطفال الحجارة وكتب الكثير من القصائد السياسية والثورية.. وحث المرأة على الاشتراك في القضايا العامة حيث قال أثناء انتفاضة أطفال الحجارة: أنا لا أستطيع أن أتخيل أن تكون اهتمامات المرأة الكعب العالي والمكياج في ظرف كهذا رغم أن هذا من غريزتها لكن يجب ألا تكون منفصلة عن قضايا مجتمعها فالتي تريد أن تكون معشوقة عليها أن تكون على مستوى من تحب وعلى مستوى الحدث السياسي فهل من السهل احتضان امرأة عندما تكتظ الغرفة بأجسام الضحايا وعيون الفقراء؟

وقد امتحن الله نزار بأغلى ما يملك فكان للرثاء حظًا كبيرًا في قصائده وكان في كل مرة يحوّل حزنه إلى قصيدة فحين استشهدت زوجته بلقيس الراوي في تفجير السفارة العراقية في بيروت حوّل وفاتها إلى ملحمة شعرية يرثي بها حال العرب ويهجو الأنظمة العربية بلقيس التي هجر البلاد العربية بعد استشهادها وعاش في لندن حتى رحل عن عالمنا هذا

شكراً لكم . .
فحبيبتي قتلت.. وصار بوسعكم
أن تشربوا كأساً على قبر الشهيدة
وقصيدتي اغتيلت ..
وهل من أمـةٍ في الأرض ..
إلا نحن تغتال القصيدة؟

سبق استشهادها وفاة ابنه وأبوه وأخته ومن مثله يصف لوعة الحزن؟

أمات أبوك؟

ضلالٌ! أنا لا يموت أبي

 ففي البيت منه روائحُ ربٍ.. وذكرى نبي

هنا ركنُه.. تلك أشياؤه تفتق عن ألف غصنٍ صبي

جريدتُه. تبغه. متكأُه كأن أبيبعدُلم يذهب

وصحن الرماد وفنجانُه بعد لم يُشربِ

وعن موت أخته قال: موت أختي جعلني أتبنى بعض قضايا المرأة وقررت أن أنتقم شعريا لها وأن أكتب شعر الحب الذي ترفضه مدائن الحجر بالسكاكين والبنادق.

كان يؤمن بأن المرأة هي الأخت والأم والصديقة والحبيبة وحث على تعليمها وأمر بالاهتمام بفكرها وعقلها فقال:

مكياج المرأة يجب أن يكون مكياجا ثقافيا لأحبها أنا لا أستطيع أن أحتمل امرأة جميلة وغبية

ويعتبَر قديس الكلمة مدرسة شعرية عربية ولغة حب جديدة أبدع بها وغيّر نظرة العالم إلى الكلمة والشعر فقصائده لها بصمة فريدة لدرجة أننا بتنا نقرأ قصيدة ما فنقول فيها روحه أو هذا الشاعر متأثر بنزار 

وكان نزار يرى الرجل سلطانا في مجتمعنا ولا سلطان يتنازل عن مكانته طوعا لذا على المرأة العمل لنيل حريتها لكن الثوريات قليلات والمرأة مقصرة بحق قضيتها وكان رافضا للازدواجية الذكورية والكيل بمعيارين وينتقد التناقض بين القول والسلوك عند الرجل المثقف..

نزار كان رجلًا صادقًا؛ عندما أحب بلقيس حارب حتى تزوجها وعندما سئل عن أغراض شعره صرح بأنه كان يحوم حول القشرة في المراهقة ثم تحولت المرأة عنده إلى عقل وحوار وجعل المرأة ملكة متوجة على عرش القصيدة فكان يحسن معاملة النساء من حوله ودليلنا على ذلك قول ابنته هدباء:

“أفسد حياتي بشعره وتعامله معي، فقد جعلني أقارن بينه وبين الرجال الذين ألقاهم فتكون المقارنة لصالح أبي”

ورغم كل هذا التقدير والحب والاحترام للمرأة ووقوفه إلى جانب قضاياها إلا أنه كان لا يرحم من يسيئ للغة العربية والقصيدة ويروى أن الشاعرة الصباح جمعتها الأقدار به في مهرجان الشعر العربي في مصر وكان يجلس في الصف الأول فلما رأته تلعثمت ولم تسطع إلقاء الشعر بشكل جيد فما كان منه إلا أن بادر بقوله: انزلي تعلمي العربية قبل الشعر وبعد فترة كتبت مستخدمةً أسلوبه الشعري قصيدتها الأشهر “سيد الكلمات”

وكان يعتبر الشعر رسالة وعملية صدامية ومواجهة من الطراز الأول والقصيدة عملية استشهادية على الورق وأخذ على عاتقه إنقاذ الإنسان العربي بالقصيدة وكان سليط اللسان ولا يخاف بالحق لومة لائم وكان يقول: الشاعر الذي لا يواكب قضايا أمته يعتبر متخلفا وهاربا عن الجندية وكان يؤمن بأن الشاعر هو ابن التاريخ ولا يمكن أن ينفصل عن واقعه وقصيدته خط المواجهة وأن من الجبن عدم تبني قضايا المجتمع وكان يرى أن القصيدة العربية نائمة في غرفة الإنعاش والأدب يستنشق ثاني أوكسيد الكربون وأن الشعر صراع بين السلطة والكلمة لأن السلطان لا يريد أن يسمع إلى صوته فقال:  

كيف نكتب والأقفال في فمنا وكل ثانية يأتيك سفاح

نزار لم تكن متابعة النخب تغريه، بل كان يريد أن تصل كلمته إلى 150 مليون عربي في عصر كان يشتكي من انتشار الأمية 

نزار العملاق الذي كان له الأثر الأكبر في نشر القصيدة في الفن العربي حيث أخذ عنه مطربون عظماء أغنوا المكتبة الفنية بفنهم الراقي وكان شعره سببا بنجاحهم ووصولهم إلى أكبر مساحة على خريطة الفن العربي أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر:(أم كلثوم، عبد الحليم، فائزة، فيروز، أصالة، ماجدة الرومي) أما نجاة التي كتب بعض القصائد خصيصًا لصوتها الدافئ فقصيدة “أيظن” فيها كم من الأفعال لم ولن يتكرر حيث يبلغ عدد الأفعال الصحيحة فيها إلى 25 فعلا صحيحًا تلك القصيدة التي تنقل مشهدًا دراميا ملؤه التناقضات وفوضى المشاعر

وكاظم الساهر الذي نهل من قصائد نزار ما يغني ألبوماته الغنائية ليخرج بذكائه من قفص العامية العراقية وينطلق نحو العالمية ناشرًا بذلك القصيدة عند الناشئة وخاصة في بلاد الاغتراب في زمن غابت عنه الفصحى ولأن نزار كبير جدًا أصبح كاظم أسير الرقي والمستوى الرفيع الذي جعله يعتلي قمة الهرم الفني في عصر انتشر فيه الفن الرديء..

ولأن نزار عظيم لم ينكر قيمة الفنانين الذين غنوا قصائده فقد وصف حليم بقوله: إنه معجزة شعرية يملك الشجاعة على اقتحام مناطق شعرية لم يقتحمها أحد إلاه..

وأوصى كاظم الساهر بالقصيدة العربية وتحدث عنه قائلا: عندما غنى كاظم أشعاري ضمن لي كرسيا في كل العصور…

وكتب إلى شاعر الجمال كريم العراقي قائلًا: ابق يا كريم مزروعا على شفتي كاظم الساهر واكتب لنا أحلامنا وأحاسيسنا بأسلوبك الطفولي الجميل..

رحل شاعر الكلمة ومبدعها في نيسان عام 1998 وعاد الولد البار بأمه ودفن في حضنها لتبقى الشام متصدرة دواوينه وميلاده ورفاته..

فمن منا أحب الشام كنزار؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *