د. فالح الشبلي
لقد أثبتت حكومات العالم أجمع إخفاقها المُخزي في حل قضايا العرب وقضايا المسلمين وقضايا غيرهم، من أصغرها إلى أعظمها، ومن المؤسف أن هذا الإخفاق الذريع أدى إلى ضياع مزيد من الحقوق، وقتل أضعاف من أعداد البشر الأبرياء، الذين راحوا ضحية التخاذل والتآمر؛ سعيا للمال والسلطة، أو بدافع الانتقام المرَضي، لا سيما حين يتعلق الأمر بتقديم الخضوع لإسرائيل، فإخفاق الحكومات الغربية وعجزها عن وضع حد لهذا الكيان الصهيوني الغادر فتح له الباب على مصراعيه ليتعدى بكل وحشية واستعلاء على أراضٍ عربية في فلسطين وخارجها، كالأردن وسوريا ومصر ولبنان.
وعلى الرغم من ترويج الحكومات الغربية لنفسها على أنها خط الدفاع الأول عن حقوق وحريات البشر، بل عن حقوق الحيوان! نجدها خاضعة، كأن جهة ما تُملي عليها عنوان القضية التي يتوجب عليها التوجه نحوها ومحاولة حلها، بينما يتم تجاهل الحقوق في قضايا أخرى، أو التلاعب بها، أو سلبها، ولو كانت في ذات السياق، إذا لم تكن أكثر بشاعة وقهرا، وهذا سيؤثر حتما في ديموغرافية السكان حول العالم؛ نتيجة تزايد أعداد القتلى في الحروب بجميع أنواعها، وتهجير سكان الأراضي المُحتلة أو المُستنزفة ثرواتها، لتتأزم على الجانب الآخر أحوال الدول التي يتهافت عليها اللاجئون، سواء بطرق مشروعة أو غير نظامية، لتظهر على السطح إشكالية الاتجار بالبشر، ويقع أغلب ضحاياها في براثن الجماعات الإرهابية على اختلاف توجهاتها واستراتيجياتها.
إن ما حصل يوم ❪٧ ـ من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي❫ في مستوطنات “غلاف غزة” هو دفاع مشروع عن الأرض والعرض، وهذا لا خلاف عليه، ولكن إن سلمنا جدلًا بصحة وجهة النظر التي تضع اللوم على الفلسطينيين لتنفيذهم هذه العملية ـ وهذا من باب الجدل لا الأحقية ـ؛ فهل يتناسب العدوان الذي شنته إسرائيل فقتلت به الآلاف ومسحت أبنية أحياء كاملة ودمرت المشافي والمرافق والبنية التحتية، مع العملية التي قامت بها المقاومة؟ إن إسرائيل التي سحقت مدنا وأحياء بأسرها اتخذت من العملية الفلسطينية ذريعة لتحقيق ما كانت تطمح إليه: من تطهير عرقي وتوسع وامتداد للعدوان، حتى إلى ما وراء الحدود، وهذه هي أهدافها منذ تأسيسها على الأراضي التاريخية الفلسطينية.
ولأن لله حِكمًا وسننًا كونية يعجز الصهيوني المتغطرس عن مواجهة تحدياتها، فإن العدوان على غزة أتى بغير النتائج المرجوة لإسرائيل، فقد أعاد العدوان القضية الفلسطينية إلى أذهان وأدبيات العرب والمسلمين في المقام الأول، ثم عرّف العالم بغزة والقضية المسكوت عنها، فانتشرت مئات المقاطع المصورة لمؤثرين غرب، وخرجت مئات المظاهرات حتى في قلب الولايات المتحدة الأمريكية، ـ هتفت جميعها على اختلاف اللهجات والديانات والتوجهات ـ بمطلب واحد، ألا وهو حرية أرض الزيتون الأبية، وبأحقية الفلسطينيين الصامدين في إدارة بلادهم ذاتيا، وخروج المحتل من الأراضي الفلسطينية.
غرست إسرائيل عملاء لها في المنطقة مستغلة نجاح أحوال كل دولة، ففي لبنان المتعدد المصالح والمجزأ شعبيًّا وسياسيًّا بين طوائفه التي انكفأت قياداتها للدفاع عنها وتحقيق مصالحها، عمل الكيان الصهيوني منذ سنوات عِدة على توطيد دعائم حكم “حسن نصر الله” وحزبه؛ لتحقيق مآرب إسرائيل ومثيلتها إيران التوسعية، مستغلًّا القضية الفلسطينية؛ لتمرير ما يصبو إليه، فيقوم بكل مكر ودهاء بين الفينة والأخرى بقصف شمالي الكيان بعدة صواريخ لا تصيب سوى منازل بعض العرب الدروز، وذلك بعد إنذار سكان مستوطنات الشمال من الإسرائيليين؛ كي لا يصيبهم أذى، فتستغل إسرائيل الحادث بتهديد لبنان واختراق مجاله الجوي وقصف قراه الحدودية والوصول لحدّ التلويح بعملية عسكرية بحجة تأمين الحدود الشمالية.
وكعادة الدول التي تزرع عملاء لتحقيق مصالحها في دولة أخرى مُستهدفة، فإن لهؤلاء العملاء مدة صلاحية تنتهي بتحقيق أهداف الدولة، ويبدو أن مدة انتهاء صلاحية “حزب الله” ومن ورائه إيران قد أزفت، بعد أن حقق لإسرائيل الأسباب التي دفعتها للعزم على إعادة التوسع في لبنان؛ بحجة حماية حدودها الشمالية، وهكذا بدأت عمليات تصفية عناصر حزب الله بتفجير أجهزة الاتصال اللاسلكي، وصحيحٌ أن عدد قتلى الحزب كان قليلًا ولكنّ إصابة الآلاف منهم إصابات خطيرة تعني خروجهم تمامًا من الخدمة العسكرية في الحزب وإفراغ مواقعهم، مع الإشارة إلى أن أجهزة الاتصال هذه لا تحملها العناصر الأساسية في الحزب، وهذا يعني أن الكيان الصهيوني تمكن من اختراق استراتيجيته العسكرية ونجح في استقطاب العملاء الجدد الذين جندهم ضد العملاء القدامى الذين انقضت مدة صلاحيتهم، وبهذا تمّ التنسيق مع مئات القادة الميدانيين في المرحلة الأولى من القضاء على حزب الله، وهي مرحلة تفجير الأجهزة.
إن من عادة الدول اللاهثة لتحقيق مصالحها على حساب بقية العالم، أن تفتعل الأزمات المُمنهجة في المناطق الاستراتيجية المهمة والتي طالما كانت هادئة، كأزمات العبور المفتعلة في مضيق “باب المندب”، هذا الموقع البحري الاستراتيجي المهم المتحكم في مرور آلاف السفن التجارية من آسيا إلى أفريقيا وأوروبا.
وما عمليات القرصنة التابعة للحوثيين، أعوان إيران الأشبه بالأخطبوط السام الذي تمتد أذرعه لكل الدول فتعيث فيها فسادا؛ ببعيدة عن هذا السياق الذي يلحق الضرر بالتجارة العالمية، ومن ثم الموارد المهمة للناس، مستغلين في ذلك القضية الفلسطينية مجددًا؛ للترويج لأنفسهم، مدّعين أنهم يستهدفون سفنًا تابعة للاحتلال، متغاضين عن هذا الكم من الخروقات الأمنية التي ارتكبوها خلال السنوات الماضية، ناهيك عن التطور التكنولوجي الذي يتيح لهم إمكانية تعرُّف ماهية هذه السفن من بُعد، متهاونين بعقلية كل من يستمع لثرثرتهم التي تفتقر للعقل والمنطق، والمتعارضة مع العلم والتكنولوجيا الحديثة المستخدمة في الحرب العالمية الثالثة التي أربكت وأنهكت العالم بأسره.
د. فالح الشبلي