واقعنا العربي الحاضر والمصير..
قيل لنا أن الوطن العربي يمتد من المحيط إلى الخليج؛ وأنه وحدة جغرافية متجانسة مزقتها مسطرة الاستعمار الأوروبي البغيض، وهذا الوطن العربي له جذور تاريخية عميقة، وبأن العرب ينحدرون من نفس الأجداد والجذور، وأنه متكامل في مزايا وخصائص أقطاره؛ فالنفط هو عصب الصناعة في العالم تفيض به باطن الأرض العربية في العديد من الأقطار مثل دول الخليج والعراق وليبيا، والأراضي الزراعية الثرية والثروات الحيوانية في السودان مكانها، والقوة البشرية في شتى أقطاره خاصة وفي مصر، مما يجعل وطننا العربي مكتفياً ذاتيا.. هذا وطن يمتاز بمناخ يغلب عليه الاعتدال، ويقع في منطقة استراتيجية لكل العالم.. وطن يدر لبناً وسمناً وعسلاً، وطن هو مهبط الديانات السماوية، وطربنا على أغنية قصيدة فخري البارودي، ورددتها الحناجر بطاقة وحماسة لا توصف:
بلادُ العُربِ أوطاني منَ الشّـامِ لبغدانِ *** ومن نجدٍ إلى يَمَـنٍ إلى مِصـرَ فتطوانِ
فـلا حـدٌّ يباعدُنا ولا ديـنٌ يفـرّقنا *** لسان الضَّادِ يجمعُنا بغـسَّانٍ وعـدنانِ
لنا مدنيّةُ سَـلفَـتْ سنُحييها وإنْ دُثرَتْ *** ولو في وجهنا وقفتْ دهاةُ الإنسِ والجانِ
فهبوا يا بني قومي إلى العـلياءِ بالعلمِ *** وغنوا يا بني أمّي بلادُ العُربِ أوطاني
وكلما كنا نكبر كنا ندرك أننا نعيش حلماً تهدمه الوقائع، وتنسف الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية أركان هذا الوطن العربي، وأن ما نردد أنها حدود مصطنعة، هي حدود مقدسة عند العرب، لدرجة أن دخول بعض العرب إلى دول بعيدة غريبة، أسهل وأيسر من دخولهم إلى بلد عربي شقيق، وأن هذا النفط الذي نفتخر بوجوده في باطن أرضنا، لم يجلب لنا لا التطور ولا التقدم، بل جلب لنا الأطماع الأجنبية، ومعها الخطط المحكمة لمزيد من التمزيق، وخلق خللاً اجتماعياً واضحاً، وظهرت حالة من الطبقية بين أبناء من يفترض أنهم ينتسبون إلى وطن عربي واحد نتغنى به
لمعادلات دولية لا تمت إلى مصلحة العرب بوصفهم مجموعة لها تركيبتها الثقافية والاجتماعية بأية صلة، وأن الاستبداد والنموذج القبلي للدولة وما يترتب على ذلك من فساد وتخلف هو الغالب على هذه الدول أو الكيانات.. ولعل مسرحية (كاسك يا وطن) للثنائي محمد الماغوط ودريد لحام، كانت من ضمن صعقات أحضرتنا من سماء عالم الأحلام الجميلة، إلى أرض الحقائق والوقائع المريرة.
وعرف الصغار فور أن كبروا أن ما درسوه عن غساسنة الروم، ومناذرة الفرس موجود وحاضر بطريقة أشد بؤسا، وأن ملوك الطوائف ليسوا حالة خاصة ببلاد الأندلس التي صارت كنزا مفقودا، بل هي واقع عليهم العيش في كنفه والتكيف مع مخرجاته وإلا فإن السجون والمشانق تنتظرهم، أو لينجو من شاء واستطاع بفيزا دخول وإقامة وعمل في بلاد المستعمرين السابقين، أو لينسى واقعه بتعاطي المسكرات والمخدرات!
هذه حالة يعرف حيثياتها كل عربي بلغ سن الشباب الأول، بل حتى الأطفال صاروا يدركونها؛ فالحلم العربي، لم يبق منه إلا كلمات وألحان قصيدة البارودي … ووصل الحال منذ سنوات إلى تبخر الحلم القُطري أو الوطني، فمثلا ليس ثمة عراقي كما عرفه جيل ما بعد الحرب العالمية الأولى، بل هناك سني وشيعي وكردي وغير ذلك.
ولكن مما لا شك فيه أن من لا يشغلهم ولا يهمهم شأن السياسة ويفضلون حتى البعد عن مجرد الحديث فيها، يقلقهم ويؤرقهم ويشعرون بخطر التسارع في التمزق والتشظي في المجتمع، ويحسّون بأن الخطر يكبر ويزداد. وهنا نزداد حيرة، إذ كيف نوقف هذه الحالة المتدهورة على مستوى المجتمع حتى في نواته أي الأسرة؟ لا شيء حاليا سوى أن نبتهل إلى الله أن يؤلف بين قلوبنا التي يسكنها قليل أو كثير من الضغائن والأطماع والأنانية.
نجدت جويد