مصطفى عبد الوهاب العيسى
شهدت المنطقة خلال القرن العشرين والقرن الواحد والعشرين ظهور العديد من الشخصيات السياسية الكردية التي أسهمت في تغيير أحداث كثيرة ، وغيرت من معادلات وتوازنات سياسية في دول هذه المنطقة ، إلا أن التأثير الكبير الذي يجعل من الشخصية السياسية مرجعاً سياسياً فقد انفردت به بعض الشخصيات الكردية العراقية التي استطاعت الحصول على مكاسب سياسية حقيقية وملموسة بعيداً عن عالم الشعارات النظرية ، وكان طبعاً من أهم هذه الشخصيات : الملا مصطفى البارزاني والرئيس جلال طالباني .
سجل التاريخ الحديث للملا مصطفى تقدير واحترام خصومه له قبل أصدقائه ، وارتباطه بعلاقات وطيدة مع العديد من الأطراف السياسية العربية والتي وصلت لدرجة أنها حظيت بثقة بعض الرؤساء العرب كالرئيس جمال عبد الناصر والملك حسين ، أما الرئيس طالباني فلا يمكن حصر تأثيره في العلاقات العربية – الكردية ، وهو ما جعله في مرمى نيران التهم الملاحقة له لعقود من الكرد المتطرفين بسبب علاقاته الواسعة مع الأطراف العربية والتي هي الأخرى وصلت لأرفع المستويات مع رؤساء عرب كالرئيس حافظ الأسد والرئيس معمر القذافي .
رغم الخلافات المستمرة – والتي وصلت لمرحلة العداء في وقت ما – بين البارزاني وطالباني إلا أننا نلحظ وجود قاسم مشترك بينهما ، وهو العلاقات الأخوية الجيدة والممتازة أحياناً مع الأوساط العربية ، وهو ما أفرز بشكل مستمر العديد من المواقف المشرفة تجاه القضايا العربية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية .
والنظر من زاوية أخرى فإننا نجد أن أهم الأحزاب الكردية في سوريا أخذت في مناهجها الكثير من الماركسية اللينينية ورفعت كثيراً شعارات اليسار كمبادئ لها ، فضلاً عن أن عدداً لا بأس به من كوادرها السياسية تتلمذ وتلمس خطواته السياسية الأولى في مدارس الشيوعية ، وهو ما يفرض عليها مواقفاً أكثر شجاعة تجاه الأزمات السياسية التي تعصف بالمنطقة .
يبقى رغم عرض ما سبق لدى الباحث عن إجابة منطقية وراء هذه المواقف الضعيفة والبيانات الخجولة للأحزاب الكردية في سوريا نقطة هامة جداً تتمثل بخصوصية الأحزاب الكردية في سوريا ، والمتابع هنا يصطدم مرة أخرى بأبرز مؤسسي أول حزب كردي وأكثر من تميز من الشخصيات الكردية في البرلمان السوري وأعني الأستاذ عبد الحميد درويش الذي تميز بخطاب واقعي وموضوعي ومتوازن لا يغفل ولا يتجاهل القضايا الوطنية من جهة ، ويحترم ويساند ويتفاعل مع القضايا العربية من جهة أخرى .
مر أكثر من عام على حرب وصفتها المنظمات الدولية وبعض الحكومات العالمية بالإبادة الجماعية في غزة ، وها هو لبنان ينزف دماً شغل العالم بأسره ، وحتى دمشق تزف الشهداء الأبرياء كل يوم ، ولا نسمع عن الوقفات الاحتجاجية التي تقوم بها الأحزاب الكردية تعاطفاً حتى مع شاب قُتل في فنلندا، ولا نشهد سيلاً من التصريحات والمناشدات لهذه الأحزاب التي اعتادت مناشدة المجتمع الدولي من أجل سيارة محجوزة !
أعلم أنه من المجحف وسم الأحزاب الكردية في سوريا التي تمارس السياسة منذ زمن طويل بضيق الأفق السياسي ، والذي يعني بأنها تعاني من سوء تقدير للأحداث وضآلة في حجم الوعي السياسي ، وحتى الانعزالية لا أستطيع توجيهها بشكل كامل لهذه الأحزاب لأنها ستكون تهمة قاسية أخشى أن يحملها البعض أبعاداً أخرى ، ولكن سأذهب نحو سبب آخر – وهو ليس مبرراً طبعاً لهذه المواقف الضعيفة – ألا وهو غياب الشخصية الكاريزمية المبادرة والجريئة التي تستطيع اتخاذ موقف شجاع وصريح بعيداً عن المصالح الحزبية الضيقة ، وغير آبهة بموقف نظرائها في الأحزاب الكردية الأخرى .
إن هذا الموقف الخجول للأحزاب الكردية سيزيد من عزوف الشباب الكردي عن الحياة السياسية ، ويوسع الهوة بشكل أكبر بينها وبين الشعب الكردي المتعاطف مع القضايا الوطنية والعربية ، ويزيد من الشرخ بينها وبين الأطراف السياسية الأخرى في سوريا .
إن الأحزاب الكردية في سوريا اليوم تخسرُ بصمتها وتجاهلها الكثير من رصيدها السياسي المتراكم عبر عقود ، وتقامر بدورها السياسي مستقبلاً ، وتُحرج العديد من أصدقاء وأنصار قضاياها الوطنية العادلة التي تناضل في سبيلها منذ سنوات طويلة .
لا عتب على العشرات من الأحزاب الفيسبوكية التي ظهرت في سنوات الأزمة السورية ، ولكن العتب على الأحزاب ذات الثقل والتاريخ السياسي والمنضوية فكراً بشكل أو بآخر تحت عباءات المرجعيات البارزانية والطالبانية التي بدأنا المقال في الحديث عن علاقاتهم ومواقفهم من القضايا العربية .