مصطفى عبد الوهاب العيسى

بكل موضوعية ، ووفق جميع المعايير نستطيع القول بأن سوريا العريقة ، والضاربة لجذورها في التاريخ ، هي أهم بقعة جغرافية في الشرق الأوسط ، ومن هنا تأتي أهميتها الجيوسياسية لدول المنطقة والعالم ، وهذا ما يجعلها دائماً وأبداً محط أنظار القوى الإقليمية والدولية المتنافسة على التعاون السياسي والدبلوماسي معها ، وإبرام المعاهدات والاتفاقيات مع الحكومات والسلطات المتعاقبة على دمشق بغية تحقيق المصالح أولاً ، وكسب الحليف الاستراتيجي ثانياً لأهداف مستقبلية قد لا يكون للسوري فيها ناقة أو جمل ، ومن هنا تأتي أهمية وضرورة تضافر الجهود الوطنية التي تُشرك جميع السوريين في بناء المشروع السوري القادم ، والقائم على هوية وطنية وأساس وطني متين يضمن استقلال وسيادة القرار السياسي .

تتعدد الخلفيات والمشارب التي ينتمي لها السوري قومياً ودينياً ومذهبياً وعشائرياً .. الخ ، وإضافة إلى ذلك الانتماءات التي تزايدت بصورة واضحة بعد عام 2011 ، كالانتماءات التي فرضتها الدول الإقليمية أو الأوروبية التي منحت الجنسية للسوريين مثلاً ، وعديد الانتماءات السياسية والفكرية والثقافية .. الخ ، ولا مشكلة في كل ما سبق طالما بقي الانتماء في حدوده الطبيعية البعيدة عن التطرف تجاه الطرف الآخر .

في ظل مرحلة حساسة تعيشها سوريا لا يمكن أن ينكر العاقل – حتى لو أراد الابتعاد عن الخوض في هذه النقاشات – حجم المآسي التي سببتها صراعات المتعصبين البيزنطية من جميع الأطراف عبر العصور ، ولا سيما خلال الأعوام الماضية التي زادت فيها مع الأسف نسب المتطرفين لمختلف هذه التيارات ، ومع الانقسام الحاد بين أنصار الإسلامية وأنصار العلمانية كأشكال للدولة القادمة ، وفي ظل كل هذه الانتماءات ، وبوجود اختلافات جوهرية في رؤيتنا كمجتمعات سورية لنوع الديمقراطية المنشودة في النظام القادم ( ليبرالية ، توافقية ، مباشرة ، غير مباشرة .. الخ ) تظهر أهمية الانتماء الوطني كأهم الأدوات في بناء النظام على أسس المواطنة والعدالة التي تحقق لنا كسوريين الحرية والكرامة التي خرجنا من أجلها في عام 2011 ، وتحترم التنوع الموجود في المجتمعات السورية ، وتضمن لنا حقوقنا في التعبير والمشاركة السياسية .

هويتنا الوطنية التي نحملها أفراداً وأحزاباً هي التي تضمن لنا شيخاً مثل صالح العلي ، وزعيماً مثل سلطان باشا الأطرش ، وبطلاً مثل ابراهيم هنانو ، ورئيس حكومة مثل دولة الرئيس فارس الخوري .

رأينا كيف فشلت في السنوات الأخيرة كل مؤتمرات النظام السابق ، والكثير من الدعوات والأطروحات التي قدمتها أطراف المعارضة في الداخل والخارج بسبب تغليب المصالح الشخصية على المصلحة السورية ، وتغييب الرؤية الوطنية الحقيقية كأفضل مسار للحل في سوريا بإقصاء رواد هذه الرؤية من وطنيين حقيقيين ، وأحزاب وطنية فعلية لم يتمكن المال السياسي من شراء ذمم قياداتها .

شهدت سوريا عبر العصور نشوء حضارات ، وتوافد أقوام كثيرة ، ومرت بتغيرات كبيرة في هويتها الدينية والعرقية ، حتى وصلنا اليوم إلى هذه الصورة من سوريا الغنية بمزيج ثقافي يعكس تاريخها الطويل ، ويخبرنا بأنه لا بديل عن الهوية الوطنية الجامعة .

عانت معارضتنا السياسية كمستقلين وأحزاب وطنية كثيراً ، ولعقود طويلة من تفرد حزب البعث في السلطة ، ودفعت أثماناً باهظة خلال أربعة عشر عاماً كمعارضة وطنية انضمت لصفوف الثورة السلمية من الأيام الأولى ، وحافظت على نزاهتها ، وما تحمله من مبادئ وقيم طيلة السنوات التي كانت كلمة الفصل فيها لحملة السلاح في الميدان .

اليوم ، وبعد فجر الثامن من كانون الأول ، أخذت المعارضة الوطنية بانتصار ثورتها فسحة بسيطة ، وهامشاً لا بأس به لطرح رؤاها بشكل عملي حول الهوية السورية ، وسبل تفعيل المشاركة السياسية ، ولكن صوتها برأيي لا يزال خافتاً نوعاً ما ، وآمالنا لن تتحقق قبل أن نشهد واقعاً ملموساً وصوتاً مرتفعاً للأحزاب الوطنية في إدارة المرحلة القادمة ، ودوراً محورياً في رسم الهوية السورية .

بعيداً عن تنبؤات التحليل السياسي الإيجابية أو السلبية ، والخاصة بالمستقبل القريب لسوريا ، فإن رهان أنصار المشروع الوطني هو الرهان الذي سينتصر إن عاجلاً أو آجلاً ، ولن نشهد غداً أجمل في سوريا إلا بالعمل وفق الأجندات والبرامج التي تبنتها وتنادي بها الشخصيات والأحزاب الوطنية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *