إبراهيم المسلم

إن من أهم دعائم بناء الدولة القوية هو بناء هوية وطنية جامعة، بحيث يكون هذه الهوية الوطنية هي القاسم المشترك لجميع أطياف المجتمع بكل أعراقها وطوائفها وأديانها ومذاهبها الدينية والفكرية. كما أن هذه الهوية تكون لها الأفضلية والأسبقية بالمقارنة مع الهويات الفرعية المكونة للمجتمع. ولعلّ الدولة السورية ما بعد حقبة آل الأسد والبعث تكون بأمس الحاجة إلى هذه الهوية التي تجمع كافة الهويات في ظلها بعد عقود من التنافر القائم على الهوية والطائفة التي عمل عليها نظام البعث بغرض إحكام سيطرتها وضمان دوامها بجعل الهويات في حالة صراع وتخوف من بعضها البعض.
ولنا في التاريخ عبر ودروس؛ وعلى سبيل المثال لا الحصر الدولة العثمانية. ففي التاريخ الحديث وتحديدا في عهد الفاتح قامت الدولة العثمانية باعتماد نظام الملة. حيث قسمت المجتمع حسب الأديان. فكل ملة من مسلمين ومسيحيين ويهود وأرمن كان لهم خصوصيتهم وقوانينهم وشرائعهم ومحاكمهم الخاصة. وبتعبير أدق كانت الدولة ممزقة فلم يكن هناك مواطن عثماني يعتد بهويته العثمانية بل كل ملة وطائفة لهم هويتهم التي تميزهم عن غيرهم. ومع هبوب عاصفة عصر القوميات في أوربا خلال القرن التاسع عشر وازدياد تدخل الدول الأوربية بحجة حماية الأقليات ازداد الشرخ بين مكونات المجتمعات القاطنة في الإمبراطورية العثمانية وأضيف لها التنافر القومي علاوة على وجود تنافر وتمايز ديني، مما دفع القوميات وخاصة التي لا تدين بالإسلام إلى الثورات والانفصال عن الدولة العثمانية حتى أطل القرن العشرين ولم يبقى إلا الغالبية من القوميات التي تدين بالإسلام وهم الأتراك والعرب والأكراد.
ومع وصول حزب الاتحاد والترقي إلى الحكم عام 1909م اتبعث السلطات العثمانية الجديدة سياسة قائمة على الإيمان بتفوق العنصر التركي وتتريك المجتمع. وهذا ما دفع العرب والأكراد بالاستشعار بقوميتهم الخاصة أمام موجة التتريك وبالتالي انقسم المقسم أكثر ووصل آفة القومية إلى الملل الإسلامية مما أدى إلى تسارع نمو الروح القومية والعصبية والدخول في صراع انتهت بالانفصال العربي-التركي وهذا جعل جميع القوميات والطوائف في المنطقة في حالة ضعف وتفكك مما مهد السبيل أمام القوى الاستعمارية (بريطانيا وفرنسا) باحتلال بلاد الشام والعراق وأجزاء من الأناضول.
وما إن استفاقت سوريا من فترة الاحتلال الفرنسي حتى دخلت في أتون حرب واستعمار فكري. حيث بدأ بعض الشخصيات والأحزاب والحكومات في نشر الفكر القومي العربي وخاصة في العهد الناصري والبعثي كحل لإخراج البلاد من أزماتها وهزائمها، ولربما كانت سياسة يتبعونها لدق الأسافين بين القوميات والمذاهب والأديان لضمان دوام حكمهم وسيطرتهم. ومهما يكن الغاية فإن تبنِّي القومية العربية أدت إلى المزيد من النفور بين مكونات المجتمع السوري حيث أدت هذه النزعة إلى ظهور الحس القومي الكردي واعتزازهم بقوميتهم كرد فعل على القومية العربية لتكون خط دفاع عن هويتهم وثقافتهم الكردية أمام سياسة التعريب وتبني سياسة اللون الواحد.
وعلى مدار خمسين عاما نجح حزب البعث العربي الاشتراكي بقيادة عائلة الأسد في تمزيق المجتمع السوري على أسس قومية ودينية ومذهبية. ففي نفس الوقت الذي يجتمع فيه غالبية العرب والأكراد تحت مظلة الدين الواحد (الإسلام) فإنهم مدفوعون للبحث عن الاختلاف والفوارق؛ فهذا عربي وذاك كردي. ونفس الأمر ينطبق على العرب السنة، الشيعة، المسيحيين، العلويين والدروز. فعلى الرغم من أن القومية تجمعهم إلا أنهم هذه المرة يضعون القومية جانبا وينبشون في المعتقد الديني وإن لم يكن فالتوجه الفكري والايديولوجي، فالغاية هي البحث عن ما يفرقهم وليس عن ما يجمعهم.
وهذا المرض المستشري في المجتمع السوري دفع كل قومية وبالتقاطع مع المذاهب والأديان إلى التقوقع حول طائفته وكأنه خلاصهم الوحيد من خطر وهمي تم العمل عليه لعقود وبشكل مدروس وتم زرعه في عقولنا. بحيث أن كل طائفة باتت ترى الطوائف الأخرى أنهم أعداء وتهديد على وجودهم.
وفي الوقت الحاضر نرى أن عمليات الانتقام والتربص بالآخر المختلف إلا خير دليل على تفشي هذا الوباء، وهذا الأمر في الحقيقة يعتبر نجاحا لسياسة دولة البعث وفي نفس الوقت يعتبر هزيمة أخلاقية وفكرية للمجتمع السوري أجمع.
وفي ظل صراع هذه الهويات الفرعية وبالتوازي مع تردي الأوضاع الأمنية والمعيشية، وإذا أضفنا لها الأخطار الخارجية نجد أننا كسوريين أحوج ما يكون إلى بناء هوية وطنية جامعة عُليا يندرج تحته جميع الهويات الفرعية في ظل دولة القانون والمواطنة دون إقصاء أحد ومع الحفاظ على خصوصية جميع المكونات ولكن دون المساس بالهوية الوطنية الجامعة التي نتساوى فيها جميعا في الحقوق والواجبات.
وهذا الأمر يتطلب جهودا كبيرة، أولا على صعيد الدولة والسلطة وثانيا على صعيد أهل الفكر والرأي والحل والربط من الوجهاء ورجال الدين والعلماء والساسة. فالمسؤولية تقع على عاتق الجميع دون أي استثناء. والتاريخ لا يعيد نفسه؛ بل نحن نكرر نفس الأخطاء فنحصد نفس النتائج.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *