د.شادي صلاح محمود (أكاديمي سوري وسياسي ناقد)
*واقع مجلس الشعب في عهد الأسد:
– مجلس تصفيق:
الأصل أن يكون مجلس الشعب في أي دولة بمنزلة سلطة تشريعية رقابية، تُمثّل إرادة الشعب وتراقب عمل السلطة التنفيذية، وتسنّ القوانين التي تصب في صالح المواطنين والمصلحة العامة. لكن في سوريا في عهد الأسد، تحوّل هذا المجلس إلى مجرد أداة شرعنة للقرارات الرئاسية، وحالة من التصفيق الميكانيكي الذي لا يتوقف، يصفّق للقرارات الرئاسية ويتبناها من دون نقاش جاد، ولا يمارس أي دور حقيقي في الرقابة أو التشريع المستقل.
وكان المتوقَّع منه أن يُسمع صوته في قضايا الأمة الكبرى، لكن بدلاً من ذلك، أصبح صوته مهمشًا، وصوته الوحيد هو صوت التصفيق الأعمى خلف كل قرار يصدر من السلطة التنفيذية، بغض النظر عن مدى خطورته أو فساد مضمونه.
– مجلس دُمى يُقرّ ما يُملى عليه:
أصبح من الواضح أن مجلس الشعب السوري لا يعدو كونه مؤسسة لا تملك من أمرها شيئًا سوى مهمة واحدة: إقرار ما يُملى عليها من السلطة التنفيذية. لا مواقف سياسية حقيقية، ولا آراء تخرج عن النصوص المكتوبة مسبقًا، ولا حتى محاولات نقاش جادة. وجلسات المجلس تُعقد على مرأى الجميع ليكتشف الجميع أن الصوت الأبرز هو صوت التصفيق للقرارات “القيادية”. حتى في أوقات الأزمات الكبرى التي شهدتها سوريا، مثل الحرب المستمرة منذ أكثر من عقد، لم نرَ أي تدخل حقيقي من المجلس، ولم يسبق له أن مارس دورًا جادًا في مراقبة السلطة، بل كان دائمًا تابعًا لها، يحاول فقط إضفاء شرعية على قرارات تسلب الشعب حريته ومستقبله.
– مجلس مؤيدين لا معارضين:
ومن النادر أن يُسجّل للمجلس معارضة فعلية لقرار صادر عن السلطة التنفيذية أو الرئاسة. فالأعضاء غالبًا ما يصوّتون بالإجماع، في مشهد يعكس هشاشة التنوع السياسي وغياب النقاش الديمقراطي، والنقد البناء. والجلسات، كما تظهر في وسائل الإعلام الرسمية، تسير على وتيرة واحدة؛ تأييد مطلق، وشكر دائم “للقيادة الحكيمة”، دون أن يُسمع صوت معارض أو مقترِح جاد، أو تفكير ناقد، وهكذا يصبح المجلس أداة لإضفاء شرعية شكلية على قرارات تُتخذ خارج جدرانه.
– مجلس تمكين الفاسدين:
يتّهم كثير من السوريين مجلس الشعب بأنه بات يضم أعضاء لا يمثلون الشعب بقدر ما يمثّلون مصالح ضيقة، سواءً عائلية أو مالية أو أمنية، إذ تكثر الاتهامات بوجود حالات فساد داخل المجلس، سواء عبر شراء المقاعد الانتخابية أو التفاهمات المسبقة التي تضمن فوز “الموالين”، والعضوية في المجلس، وفق ما يتداول في الشارع السوري، أصبحت أقرب إلى امتياز اقتصادي أو اجتماعي لا يُمنح إلا للمقرّبين من السلطة أو من رجال الأعمال الذين يدخلونه لحماية مصالحهم لا لخدمة المواطنين، فأصبح مجلس الشعب وسيلة لتمكين الفاسدين ومن وراءهم من عوائل وعشائر، وكسبهم، وضمان ولائهم.
إنّ الاتهامات بالفساد لا تأتي من الخارج فقط، بل أصبحت واقعًا محسوسًا داخل أروقة المجلس، فعمليات شراء وبيع المقاعد الانتخابية أصبحت شبه علنية. والمجلس أصبح وكرًا للمصالح الشخصية، حيث الأجندات الخاصة تحكم، أما الصالح العام فلا يجد له مكانًا في القاعة. وتتكاثر الأنباء عن علاقات مشبوهة بين أعضاء في المجلس وبعض رجال الأعمال النافذين، حيث يتم حماية المصالح المالية عبر التشريعات غير الشفافة التي تعزز الفساد وتمنح المزيد من الامتيازات لأقلية فاسدة. كل هذا يحدث بينما يعاني السوريون في الداخل من أزمات اقتصادية خانقة، وتضخم لا يُحتمل، وارتفاع مهول في أسعار السلع الأساسية.
– مجلس تغييب الكفاءات:
ما يزيد الطين بلة، هو تغييب الكفاءات السورية عن المجلس، فالكثير من المثقفين، والحقوقيين، والخبراء القادرين على الإسهام في المشاركة الفاعلة في بناء الوطن، والمتصفين بالنزاهة، والقوّة والأمانة، لا مكان لها بين أعضاء المجلس، يُستبعدون لصالح أشخاص لا يملكون المؤهلات العلمية أو السياسية الكافية، أو الأخلاقية، وإنما يمتلكون علاقات واسعة في دوائر السلطة، وكذلك يجيدون التكيّف والتلوّن والانسجام مع السلطة، فتُركّب قوائم المجلس من هذه الشخصيات التي يجمعها الولاء، لا الكفاءة، وهذا ما دعى الأعضاء يتنافسون على تقديم الولاء بدلًا من الكفاءة.
وهذه المعايير غير العلمية التي توصل الأسوأ، وتقطع الطريق على الأكفأ، تدمّر بشكل ممنهج أي أمل في بناء دولة قانون حقيقية. بل إن وجود أعضاء من هذا النوع في مجلس الشعب يعكس في الحقيقة فشل النظام في بناء مؤسسة تشريعية حقيقية قادرة على التفكير المستقل، وعلى إحداث التغيير الجاد في المجتمع السوري.
– مجلس لم يتحمّل المسؤولية في مرحلة الثورة:
في مرحلة الثورة، وما أعقبها من حرب اجتاحت سوريا منذ عام 2011، كان يُنتظر من مجلس الشعب أن يؤدي دورًا وطنيًا في محاولة رأب الصدع، وصياغة إصلاحات دستورية، ومساءلة المسؤولين عن الفساد والقتل والقصف، والانهيار الاقتصادي. لكن شيئًا من ذلك لم يحدث، إذ بقي المجلس غائبًا، وربما مغيَّبًا، عن كل الملفات الكبرى، مُكتفيًا بممارسة الدور ذاته: التصفيق، التسويغ للقصف والقتل، وتلميع صورة السلطة.
أمام كل هذه الحقائق، لا يمكن اعتبار مجلس الشعب في حقبة نظام الأسد سوى مؤسسة وهمية. لا يقدم هذا المجلس أي قيمة حقيقية أو فائدة للشارع السوري، ولم يخرج عنه سوى قرارات موافقة على ما يُملى عليه، على حين المواطن السوري بقي في معاناته اليومية من دون أن يرى أي أثر حقيقي لهذا المجلس في تحسين وضعه.
ومجلس هذا وصفه مجلس لا يمثل الشعب، بل هو مجرد أداة للسلطة، وجسر لها تدوسه لتصل إلى غاياتها الخبيثة، وكان أعضاؤه مجرد كومبارس للسلطة، تستعملهم لإضفاء الشرعية على نظام مليء بالفساد والتخلف.
* المأمول من مجلس الشعب بعد التحرير:
ونحن على أمل بعد تحرير سوريا من نظام الأسد، أن نشهد مجلس شعب مختلف عمّا كان عليه من قبل:
– مجلسًا حقيقيًّا لا خيالًا ووهمًا.
– مجلسًا فاعلًا لا مفعولًا به.
– مجلسًا يضمّ رجالًا، يجعلون مجلس الشعب للتحليل والتحقيق، لا للتطبيل والتصفيق.
– مجلسًا يضم المصلحين لا المفسدين.
– مجلسًا يضم أهل الكفاءات لا المحسوبيات.
– مجلسًا يراقب واقع الناس الخدمي، وينقله على حقيقته من غير تجميل، ويطالب الحكومة بتحسينه والنهوض به في مدة محددة، ويراقب عمل الحكومة ومؤسساتها ومتابعتها لمهامها وواجباتها، فإن لاحظ إهمالًا وتقصيرًا وفسادًا يطالب بالمحاسبة.
* فيا من تفكّر بالترشح، إن كنت أهلًا للقيام بمسؤوليتك الرقابية والمطالبة بالمحاسبة، فأهلًا بك، سواء كنت كفاءة علمية أو وجيهًا، وإن كنت لست أهلًا للرقابة، وتخشى من المطالبة بالمحاسبة، فالزم بيتك ومضافتك؛ فمجلس الشعب لا يحتاج إلى أشباه الرجال!
*ونصيحة إلى الحكومة السورية القائمة: إن الإصلاح الحقيقي في سوريا يبدأ من مجلس الشعب؛ فإن أردتم أن تصنعوا فرقًا في مجلس الشعب، وتُحدثوا فيه تغييرًا، وألا يعيد سيرته الأولى في زمن الأسد من التصفيق والتطبيل، فلا تقبلوا في مجلس الشعب أشباه الرجال، بل الرجال القادرين على صنع تاريخ مختلف لسوريا، تاريخ جميل، فهل إلى ذلك من سبيل؟!