ثقافة العزلة
تعرف العزلة بأنها ميول الإنسان للانطوائية وتجنب الاحتكاك مع البشر أو حتى التحدث إليهم
فالمجتمع ينظر بشكل عام إلى الإنسان الذي يدخل في طور العزلة على أنه يمر بمرحلة اكتئاب، وذلك
بسبب مروره بصدمة عاطفية أو فشل في مجال الدراسة أو العمل أو فقدان عزيز، وأنها أمر يجب
تجنبه لأن له آثاراً سلبية فقط. إلا أن للعزلة جانبا مبهما لدى الجميع، هو جانبٌ لم يكتشف إيجابياته إلا
القليل من الناس، فالبشر جميعهم لا بد وأنهم قد لجؤوا يوماً ما إلى العزلة، ربما لمداواة جرح في قلوبهم
أو لاستجماع قواهم أو لمحاولة نسيان أمر ما وجميعنا لا يعرف عن العزلة إلا الجانب السلبي!.
ولو نظرنا إلى العزلة من زاوية جديدة على أن النفس البشرية قد تحتاج في وقت ما إلى العزلة لأن
الوجود الدائم للإنسان بين أقرانه سيجعله ملتحماً بهم ، قد تتداخل طموحاتهم مع طموحاته وتتسرب
أحلامهم إليه فتصبح أحلامَه حتى وإن كانت ليست كذلك، سيضعف التركيز على ذاته شيئاً فشيئاً فيعيش
أحزاناً ليست أحزانه ويخوض في مشاعر القلق لأسباب يجهلها لأنها باختصار طاقةٌ سلبية تجوب في
نطاق عالمه لابد وأن تتسرب إلى أعماقه.
والإنسان كائن اتكالي بطبعه يميل إلى إلقاء بعض أعبائه إن لم يكن جميعِها على من هم حوله ويعيشون
معه وبالتالي سيجد الإنسان نفسه في لحظة ما يتحمل أعباء غيره، أعباء قد ترهقه من الداخل وتستنزف
بعض طاقته إن لم نقل أغلبها و في لحظة ما سيبدأ بالبحث عن نفسه وسط كل هذه الأعباء متسائلاً أين
أنا من كل ذلك؟ هنا ستظهر حاجة روحه للعزلة فيلجأ إليها ليعيد التوازن الذي فقده.
حين ستخوض العزلة لأول مرة في حياتك ستشعر بأنها أمرٌ غريب، ربما ينتابك بعض الحزن
أوالخوف، وحين لا يكون اختيارك للعزلة بهدف العزلة الدائمة فعليك أن تعرف كيف تستفيد منها.
ركز على نفسك، ضع طاقتك كلها في سبيل أحلامك، تلك الطاقة التي كنت تبعثرها هنا وهناك في أمور
لا تعود عليك بالفائدة، أعد شريط حياتك إلى الوراء ببطء شديد لتعرف في أي الأمور كنت مخطئاً
وأيها كنت مصيباً.
اعترف لذاتك قبل أي أحد بأخطائك حاور نفسك لأنها الأَولى بأي حوار، اعتذر منها إن اكتشفت بأنك
جرحتها دون قصد وأعطها وعداً بألا تضعها في المواقف ذاتها، توقف عن معاقبتها إن شعرت بأنها قد
أخطأت واعلم أنك لن تعرف الطريق الصحيح إن لم تخطئ، أغلق جميع أبواب ندمك وأخبر نفسك بأن
الأمس لن يعود فلا داعي لخسارة يومك ومستقبلك.
ثقف نفسك فإن كنت ممن لم يقرؤوا كتاباً في حياتهم ابدأ ببعض القراءات البسيطة التي تشعر بأنها
تلامس روحك لا بأس من بعض الخيال، ولكن الخيال الذي سيجعلك تفهم ذاتك ويمنحك العبر التي
تحتاجها في الحياة .
صنف الناس المحيطين بك في مجموعتين مجموعة ضيقة تضم الأشخاص المقربين والذين يهمك
أمرهم بالدرجة الأولى ومجموعة أوسع منها تضم الأصدقاء والأشخاص الذين لهم مكانةً في قلبك.
حاول إسقاط الأمور الصغيرة وغير المهمة ولا تحاول إعادتها إلى حياتك أو اهتمامك مرة أخرى أي
ابتعد عن صغائر الأمور.
ابحث داخل نفسك وحاول أن تعرفها أكثر واختر الأشخاص الذين لا يسببون لك ضغوطاً نفسية ولا
يؤذون مشاعرك واعلم تماماً أنك لن تكون قادراً على الخوض في أي علاقات عاطفية جدية وصحيحة
قبل أن تعرف أي نوع من البشرأنت.
أنت ستغدو أكثر هدوءًا مما كنت، وسيتجه تفكيرك ليصبح أكثر منطقية وواقعية، وحين ستنتهي فترة
عزلتك الاختيارية ستكتشف بأنك لم تعد أبداً كالسابق وأن هناك الكثير من التغيرات التي طرأت في
شخصيتك.
ستكتشف أن الضجيج الذي كنت تتذمر منه وأنت بين عائلتك هو أفضل بكثير من ضجيج الصمت، وأن
الكثير من الأعباء التي كنت تحسبها أعباءً هي نكهة الوجود بين العائلة، سيكون باستطاعتك فهم أمورٍ
كثيرة كان يصعب عليك فهمها، طريقة تعاملك مع الأخرين ستختلف كثيراً وحتى نوعية الأشخاص
الذين كنت تنتقيهم ليكونوا أصدقاءً لك أيضاً ستختلف.
ربما لا يكون الإنسان مضطراً إلى الحياة في نطاق العزلة لكنها يجب أن تكون من ضمن فترات حياته
فهي ستجعله يستمع إلى صوت أعماقه فيعرفها كما لم يعرفها من قبل.
أحياناً تفرض الحياة علينا العزلة كأمرٍ لا بديل له كالسفر أو الهروب من أمر معين ولكن علينا أن نعيد
ترتيب الأمور ونغير وجهتها وأن نخلق الجيد من السيء، العزلة هي ملجأ مؤقت لنستعيد قوانا ولم تكن
يوماً بيئة دائمةً للحياة.
ربما تتغير وجهة نظر الآخرين للعزلة يوماً ما فلا يرونها على أنها مرض نفسي أو ضعف من مواجهة
العالم رغم أن هذه النظرة قد تكون صحيحة في بعض الأحيان وليس جميعها.
العزلة التي تناولنا الحديث عنا هي أمر نلجأ إليه عندما نحاول ترميم ذواتنا لننطلق إلى الحياة من جديد.
لينا بغدادي