د. عبد الباسط البيرم
قديماً قيل: الخطّ هندسة روحانية ظهرت بآلةٍ جسمانية.
مرت الكتابة العربية بأطوار مختلفة متدرجة عبر عصور موغلة في القدم، حيث يؤكد العلماء أن الخط العربي مر بسلسلة من التطورات بعد أن أخذ الفينيقيون الكتابة من المصريين القدماء، فنشأ خط «المسند» الذي كان منه «السرياني» ثم «الكوفي»، ومن الفينيقي أيضا نشأ الخط «الآرامي» الذي اشتق منه «النبطي» الذي تطور بدوره إلى «الحيري» و»الأنبا ري» وكان منهما على التوالي «المجازي» و»النسخي».
ولو تتبعنا النقوش التي عثر عليها في أرجاء مختلفة من بلاد العرب لوجدنا أن أقدم النصوص التي ظهر فيها رسم الحرف العربي كانت في شمال الجزيرة العربية،
وهي نقوش ثمودية ولحيانية ونبطية تعود إلى فترة مابين القرنين الثالث والسادس الميلاديين. ومن بين أهم النصوص العربية الواضحة التي تم العثور عليها، نقش قبر
«امرئ القيس» الذي يعود تاريخه إلى سنة (328 م)، والذي عثر عليه في (النمارة) من جبل الدروز جنوب سوريا. أما أقدم من استخدم أدوات الكتابة فهم السومريون، حيث كانوا يستعملون الحديد والخشب، ومنهم أخذ المصريون طريقتهم في الكتابة، ثم انتشرت بعد ذلك لتصل إلى الصين والهند شرقا، وإلى دول أوربا غربا.
لقد كان المشرق طريق النور ومهد الحضارات، فمنه أخذ الغرب لغاته الآرية والتورانية، وحروف الأبجدية، وأخذ أرقام الحساب، ومنه تعلم صناعة العمران، ومنه أخذ دياناته الغابرة والحاضرة.
رغم سبق الخط العربي لعصر النبوة بقرون عديدة، إلا أنه لا يدين بالكثير للفنون التي سبقت الإسلام شرقية كانت أم غربية، كما أنه لم يتأثر بفنون الأمم الأخرى بعد انتشار الإسلام، بل هو الذي أثر فيها شكلا ومعنى وزخرفة وإبداعا. وبقي الخط العربي يحافظ على شخصيته وتميزه، وكان رمزًا عظيما للفن الذي بنيت عليه حضارة العرب والمسلمين، ولم يحظ فن أو خط في تاريخ الأمم بالرعاية والعناية والتفنن ما حظي به الخط العربي في مسيرته الطويلة عبر القرون.
كان رسولنا الكريم- صلى الله عليه وسلم- على رأس الذين اهتموا بالكتابة، فأمر الشفاء بنت عبد العدوية أن تعلم زوجه حفصة رضي الله عنها الكتابة ليقتدي به المسلمون في تعليم نسائهم، كما جعل فدية الأسير المشرك -الذي يعرف الكتابة- تعليم عشرة من المسلمين لقلة من يعرف الكتابة منهم، ذلك أن العصر الجاهلي كانت تغلب عليه الأمية، فلم يعرف الكتابة منهم إلا أفراد قلائل، (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ).
جاهد الأقدمون في القرنين الأول والثاني الهجري للحفاظ على الخط العربي الذي كتب به القرآن الكريم، واستبسلوا في سبيله أمام تيارات الاختلاط إبان الفتح الإسلامي حيث صمدوا مدافعين ومعلمين، خوفًا على الأجيال المقبلة من أن تفتح عيونها على اللحن الأعجمي الدخيل، وكان من هؤلاء الأعلام أبو الأسود الدؤلي، ونصر بن عاصم الليثي، والخليل بن أحمد الفراهيدي، وتلامذتهم، وهو ما رسخ اللغة، وجدد الخط العربي، ونشر الدين، ومكّن ملايين المسلمين من أن يتمسكوا بهذا الإرث الحضاري شرقًا وغربًا.
أما في عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم – فقد كان الكتاب يكتبون القرآن الكريم ورسائل النبي إلى الملوك والأمراء بالخط المكي أو الحيري، ومن المعروف أن المصحف العثماني ظل يقرأ أربعين عاما دون نقاط ودون حركات، حتى إذا ما امتدت الفتوحات الإسلامية ودخلت أمم غير عربية في الإسلام، ظهر اللحن، فكلف الخليفة معاوية بن أبي سفيان أمير العراق زياد بن أبيه أن يطلب من أبي الأسود الدؤلي وضع علامات تدل على القراءة الصحيحة. فقام الدؤلي بوضع العلامات على شكل نقط، وبلون مختلف عن لون الكتابة، فوضع نقطة تحت الحرف كناية عن الكسرة، ونقطة فوقه للفتحة، ونقطة بأول الحرف للضمة، ونقطتين للتنوين.
غير أن هذا الإصلاح لم يف بالغرض، إذ وقع اللبس في الحروف المتشابهة كالباء والتاء والثاء، والدال والذال، والصاد والضاد، فسارع الحجاج بن يوسف الثقفي في خلافة عبد الملك بن مروان إلى تكليف اثنين من تلاميذ أبي الأسود هما: نصر بن عاصم الليثي ويحيى بن يعمر لعلاج هذا الأمر، فانتهيــا إلى وضع نقطة للباء في أسفلها، ونقطتين للتاء فوقها، وثلاث نقاط للثاء، وهكذا، لكنهما اختلفا في تنقيط حرفي الفاء والقاف، فقد قرر نصر -وهو من المشـرق- وضع نقطـة واحدة فـوق الفـاء، ونقطتين فوق القـــاف، وقرر يحيى -وهو من المغرب- وضع نقطة للفاء تحتها، ونقطة واحدة للقاف فوقها، وهذا ما نلحظه في المخطوطات المغربية التي تعود إلى ذلك العصر.
إلا أن الخليل بن أحمد الفراهيدي (94-162هـ) كان أوسع الناس علمًا بالعربية، وأكثر اطلاعا على ثقافات الأمم الأخرى، وهو مبدع علم العروض، ومعجــــم العربية الأول، دل على الحركات المختـلـفـــة بعلامات من صــور الحروف العربية نفسها، توضع بآخر الحرف، فالضمة واو صغيرة، والفتحة ألف أفقية منحدرة قليلا إلى اليسار، والكسرة ألف أفقية سفلية، والسكون دائرة مغلقة تشبه شكل الفم وهو مطبق، أما التنوين فهو تكرار الضمة والفتحة والكسرة مرتين. كما ابتكر علامة الشدة، وهمزتي الوصل والقطع، واستمرت طريقته في التشكيل حتى عصرنا الحاضر.
وبعد الفراهيدي ظل الخط العربي يرتقي ويتطور ويزداد حسناً ورونقاً وتنوعاً حتى قيل أن الخط الكوفي وحده تشعب إلى عشرات الأنواع منها: الأموي، والعباسي، والفاطمي، والأيوبي، والمملوكي، والأندلسي، والسلجوقي، والمكي، والمدني، والمربع، والمنظور، والمورق، والمزهر، والمبسوط، والمقور، والمظفور…، إلا أن الوزير العباسي الخطاط المبدع محمد بن مقلة استخلص بمساعدة شقيقه الخطاط عبد الله ستة أنواع رئيسة للخط، هي: الثلث، والنسخ، والتعليق، والريحان، والمحقق، والرقاع.
وتشير الروايات التاريخية إلى أن أصل الهجاء في حروف اللغة العربية مأخوذ عن الخط السرياني المشتق من خط المسند القديم. ويروي البلاذري -كما في صبح الأعشى للقلقشندي- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ثلاثة من قبيلة طي وهم (مرارة بن مرة، وأسلم بن سدرة، وعامر بن جدرة) قاسوا هجاء العربية على هجاء السريانية، فتعلم قوم من أهل الأنبار، ثم تعلم عن هؤلاء قوم من أهل الحيرة. وكان بشر بن عبد الملك الكندي يأتي الحيرة فيقيم فيها فتعلم الخط العربي من أهلها، ثم أتى مكة فرآه سفيان بن أمية بن عبد شمس وأبو قيـــس بن عبــد منــاف بـن زهــرة بن كـلاب يكـتـب، فســألاه أن يعلمـهـمـا الهجـاء ففعل، ثم أتى بشر بن عبد الملك وأبو قيس الطائف في تجارة لهما يصحبهما غيلان بن سلمة الثقفي الذي تعلم الخط منهما، فتعلم الكتابة منهم نفر من أهل الطائف، ثم رحلوا إلى الشام حيث تعلم الكتابة منهم أناس كثيرون.
كان بشر بن عبد الملك الكندي أول من علم الكتابة للعديد من العرب قبل البعثة، وكان من كتاب النبي – صلى الله عليه وسلم – علي بن أبي طالب، وأبو سفيان وابنه معاوية، وسعيد بن العاص، وزيد بن ثابت، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وشرحبيل بن حسنة، وعبد الله بن أبي سرح، والعلاء بن الحضرمي، وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص (رضوان الله عليهم أجمعين)، وكان أول من كتب للنبي – صلى الله عليه وسلم – من قريش عبد الله بن سعد، وأول من كتب له عند مقدمه للمدينة أُبي بن كعب الأنصاري، وكانوا يكتبون على جريد النخل، وعظام الجمل، وقطع الخزف والفخار والرق والبردي، وفي نهاية القرن الأول الهجري تعلم العرب صناعة الورق على يد صنّاع من الصين حين فتحوا سمرقند.
ولما انتقل مقر الخلافة إلى الكوفة أيام الخليفة الراشد علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، وإليها -ينسب الخط الكوفي- ظل هذا الخط متداولاً ومفضلاً حتى نهاية العقد الرابع الهجري، حيث كان الخليفة علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يكتب القرآن بيده، وهو الذي كتب صلح الحديبية بين رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وسهيل بن عمرو ممثلا لقريش في حينها. كما كان الحسن البصري -رحمه الله- من رواد الخط من التابعين وكان يقرب إليه الخطاطين في مجلسه.
بعدها انتقل مركز العناية بالخط العربي إلى الشام (41هـ) مع استقرار الخلافة الأموية، فظهر فيها الخطاط قطبة المحرر الذي بدأ تحويل الخط العربي من قيود الخط الكوفي إلى قاعدة جديدة أكثر ليونة، فاخترع خط الطومار وخط الجليل.
ولما جاءت الدولة العباسية، ظهر الضحاك بن عجلان في خلافة أبي العباس السفاح، كما ظهر إسحق بن حماد في خلافة المنصور والمهدي، وكانا يكتبان الجليل والطومار، ثم جاء إبراهيم الشجري –تلميذ إسحق بن حماد- واخترع قلماً أخف سماه «خط الثلثين»، وهكذا أمكن توليد أقلام جديدة بحيث أصبح عدد الأقلام العربية نحو عشرين نوعاً.
وقد جاء الوزير العباسي محمد بن مقلة (272-328هـ) في زمن خلافة المقتدر بالله العباسي، فوضع المقاييس والمعايير الهندسية والجمالية للخط العربي، وقد سمي الخط الذي تنطبق عليه هذه المقاييس «محققاً» والخط الذي لا تنطبق عليه هذه المعايير «دارجاً».
يقوم قانون ابن مقلة على إيجاد علاقة ثابتة بين الحروف بحيث يتحقق بها الاتساق والجمال. وعد حرف «الألف» هو المعيار الثابت ونسبت إليه الحروف جميعها. ومن العجيب أن ابن مقلة جعل طول حرف الألف مساويا لعرضه ثماني مرات وهي النسبة نفسها بين طول جسم الإنسان وطول رأسه!
وظل ابن مقلة يطور ويبدع في مجال الخط حتى عده الخطاطون والباحثون الأب الروحي لقواعد الخط العربي الأصيلة.
بعد قرن من الزمان جاء «علي بن هلال بن البواب» المتوفى عام (413 هـ) ليكمل قواعد الخط وضوابطه، وعنه قال ابن خلكان من أهل القرن السابع الهجري: «لم يوجد في المتقدمين ولا المتأخرين من كتب مثله ولا قاربه»، وهو الذي هذب طريقة ابن مقلة ونقحها وكساها طلاوة وبهجة.
ثم جاء «جمال الدين ياقوت بن عبد الله المستعصمي» الملقب بـ «قبلة الكتاب» في أواخر العهد العباسي والمتوفى عام (698 هـ)، فأوصل هذه الحركة الجمالية للخط العربي إلى غايتها، وكانت تعديلاته وإبداعاته منعطفاً تاريخياً في إيصال قواعد الخط إلى غاية الوضوح والكمال.
وبعد المستعصمي انتقلت الرياسة إلى أقطاب الخط في الدولة العثمانية، فكان من الرواد العثمانيين الأوائل «حمد الله الأماسي» المعروف بابن الشيخ، الذي اكتملت على يديه قواعد خط الثلث «سيد الخط العربي» المعروف إلى يومنا هذا.
وهكذا فإن الخط العربي إنما هو إرث حضاري كبير، تميزت به أمتنا االعربية منذ القدم، وإذا كان هذا الفن الجميل قد مر بسلسلة من التطورات والتغييرات حتى تكاملت صورته على ماهي عليه الآن، فإن الفضل في ذلك يعود لله أولا ثم لتلك الأيادي الأمينة التي حباها الله هذه النعمة العظيمة لتحافظ على كنز من كنوز حضارتنا مازال شامخاً يضاهي بروعته وإعجازه كل فنون الأمم الأخرى. ولعل التاريخ يسجل بصفحات من نور انتصار الحرف العربي على حروف أمم الأرض حيث حل، وهو الذي حمل نور القرآن الكريم إلى مجاهل العالم شرقاً وغرباً لتفتح الشعوب أعينها على هذا الهدي الرباني الأصيل الذي كتب بحرف عربي صرف كان مجداً للفنان الخطاط المسلم الذي نمقه وجوده ليبلغ ذروة كماله ويصل لنا عذباً سائغاً لذة للناظرين.