استغرق في نوبة تفكير عميق شغلته تماما عما يدور حوله من صخب في حافلة الركاب المزدحمة.. أصبح انفصاله عما يحدث حوله أمرا مألوفا لديه في الأيام
الأخيرة.. لدرجة أنه فكر كثيرًا في ترك العمل الذي لا يجيد غيره، ولكنه لم يفعل.. كم مرة فكر في أن يحمل حقيبة وكتابًا ويتجول في أكبر مساحة متاحة من الأرض المعمورة لكنه لم يتحرك من مكانه.. كم مرة فكر في الذهاب إلى مطعم متخصص في المأكولات الشعبية التي لا يحتاج فيها لشوكة
وسكين لتناول الطعام وغمس وجهه ويديه في الأواني لكنه لم يجرؤ.. ولا يدري لماذا يشعر بقيد هائل يقيد روحه قبل جسده.. فالأحجار هي أخف الأثقال مقارنة بالهموم التي تثقل الروح..
تذكر عندما كان لا شيء يشغل باله.. وكيف كان يضحك مقهقهًا على النكات العابرة السخيفة
الآن لا شيء يدعو للضحك سوى عجزه وقلة حيلته.. تشابه الأيام وتكرارها ثقل…جديد أضيف إلى قائمة أثقاله.. النظر إلى الخلف في ماضي أيامه هو رحلة عذاب والنظر إلى الأمام نحو المستقبل أصبح مشوار ضعف وعجز…أخرجه من بئر تفكيره العميق.. يد امتدت من المقعد خلفه لتلمس كتفه.. هذه اللمسة ذكرته بيد أمه عندما كانت تربت على كتفيه وتقول: “اعمل يا بني اللي عليك والباقي على ربنا”
لم تكن يد أمه تشعره بالأمان والدفء فقط.. بل كانت يدها هي حنو الكون كله…
هذه المرة كانت اليد ناعمة لينة، ولكنها باردة كالماء في ليالي الشتاء.. وعندما شعرت صاحبة اليد أنه لم يلتفت بادرته قائلة: هلّ سمحت؟ أرجو أن تفسح لي طريقًا للمرور…
سمع صوتا أنثويا يطالبه بالابتعاد عن الممر حتى تستطيع النزول.. تعمد عدم النظر خلفه.. انتظر حتى توقفت الحافلة عن الحركة.. وفُتح باب الحافلة.. وأخذ طريقه هابطا من الممر حتى يفسح الطريق لكي تستطيع السيدة النزول.. لم يكن يريد أن يتسبب لها أو لأي إنسان آخر في أي إعاقة..
نزل من الحافلة ووقف ينتظرها حتى تهبط.. كانت تحمل أكياسًا كثيرة ومعها صبي صغير تدفعه أمامها. هبط الصبي وأخذ خطوتين للخلف لكي تهبط أمه.. في نفس اللحظة التي كانت تمر بها سيارة مسرعة.. لم يكن الصبي مدركا تماما لما سوف يحدث له.. والأم منشغلة بأكياس المشتروات التي تحملها.. والكون ينتظر حدثا سيغير مجرى حياة الصبي وأمه…
لم يشعر بنفسه إلا ويده تمتد بسرعة لتخطف الصبي الصغير من أمام السيارة المسرعة.
احتضن الصبي بقوة وضمه إلى صدره.. سكن الصبي داخل صدره حتى شعر بحرارة أنفاسه على وجهه.. فأغمض عينيه حتى يتوقف الزمن تعالت صرخات الأم وأصوات المارة من حولهم تشكره على إنقاذ حياة الصبي
-ابني. حبيبي.. الحمد لله.. قالت السيدة وهي تنتزع ابنها من حضنه
–لاحول ولا قوة إلا بالله. ربنا يحميك يا بني.. قال رجل كبير من المارة الذين تجمعوا حوله
وهو مذهول لا يدرك ما يجري حوله…. ففي اللحظة التي كانت الأم المفزوعة
تختطف طفلها من صدره شعر لبرهة وكأن الطفل الصغير يربت بيده الصغيرة على كتفه امتنانا.. بنفس
الحنان الذي كان يشعر به حين تربت أمه على كتفه.. بزغت شمس دمعة في عينيه.. ولكنه وأدها مغمضًا جفنيه.. أكان كتفه حقا الذي تلقى تلك اللمسة أم قلبه؟
التائق إلى يد أمه وحنانها.. ترك الجميع خلفه.. وابتعد راضيا بما منحته الحياة في هذه اللحظة وأخذ يتحسس كتفه وقلبه…