فطنة وفتنة
كانت هند بنت المهلب من أجمل نساء شبه حزيرة العرب بالإضافة إلى الفطنة والفصاحة والحسب والنسب فهي ابنة القائد التابعي المهلب بن أبي صفرة وأخت يزيد بن المهلب أحد أهم الشخصيات في التاريخ الإسلامي وكان الحجاج بن يوسف الثقفي من أقوى رجال الدولة الأموية وكانت تربطه علاقة قوية بآل المهلب وهذا ما أهلّه لطلب الخطبة من ابنتهم هند وقد تم الزواج من صاحبة الجمال والنسب بعد أن بذل الحجاج أموالًا طائلة ومؤخر صداق قدره مئات الآلاف من الدراهم… وعاشت هند مع الحجاج وهي كارهة له إلى أن دخل عليها يومًا فوجدها تتأمل جمالها في مرآتها وتقول:
وما هند إلا مـهـرة عــربـية سـلالة أفـــراس تحللـها بـغـل
فإن ولدت فحلاً فللـه درهـا وإن ولدت بغلاً فجاء به البغل
سمعها الحجاج دون أن تنتبه هند لوجوده فاستشاط غضًبا، وأراد أن يعاقبها بالطلاق، فبعث إليها غلاماً ليطلقها بكلمتين لا يزيد عليهما حرفًا.
ذهب الغلام إلى هند حاملًا معه مؤخر صداقها (200ألف درهم)، وقال لها: كنتِ فبنتِ، فردت هند بفصاحتها: كنا فما فرحنا… فبنا فما حزنا، ولم تكتفِ بهذا الرد بل أعطت المئتي ألف دينار للغلام الذي أرسله الحجاج قائلة له: هذه لك بشارة خلاصي من كلب ثقيف (ثقيف هي قبيلة الحجاج)
بعد الطلاق لم يجرؤ أحد على خطبة هند خوفاً من الحجاج، إلا أن أخبار حسنها ونباهتها وفصاحتها وصلت إلى أسماع أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان حيث دفعت هند لبعض الشعراء لمدحوها أمام الخليفة..
قرر الخليفة أن يخطبها لنفسه، ووقع أمير المؤمنين في غرام هند قبل أن يراها وعندما بلغتها رغبة عبد الملك بن مروان بخطبتها، بعثت له كتاباً قالت فيه: بعد الثناء على الله والصلاة على نبيه محمد، صلى الله عليه وسلم، أما بعد، فاعلم يا أمير المؤمنين أن الكلب ولغ في الإناء. (أي شرب الكلب منه، وتقصد بالكلب هنا الحجاج بن يوسف الثقفي)
فلما قرأ عبد الملك بن مروان كتابها ضحك من قولها وكتب لها حديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً إحداهن بالتراب ثم قال: اغسلي القذى عن محل الاستعمال..
وافقت هند على طلب الخليفة، لكنها اشترطت أن يقود الحجاج موكبها حافيًا وهي في طريقها إلى قصر الخلافة، فضحك الخليفة ضحكاً شديداً من شرطها ووافق عليه.
امتثل الحجاج لأوامر الخليفة، و ذهب إلى دار هند حافياً، ولما تجهزت وركبت مع جواريها في الهوادج، أخذ الحجاج بزمام البعير وراح يقوده متجهاً إلى قصر الخلافة، وفي الطريق تعمَّدت هند أن توقع من يدها ديناراً بينما يسوق الحجاج الراحلة، فخاطبته قائلة: يا غلام لقد وقع مني درهم فأعطنيه، فناولها الحجاج نقودها قائلاً: إنه دينار وليس درهماً، فقالت: الحمد لله الذي أبدلني بدل الدرهم ديناراً (وتقصد بذلك أنها تزوجت خيراً منه)
فقال لها: فإن تضحكي مني فيا طول ليلي.. تركتك فيها تبكين كالقبى
فأجابته: فالمال مكتسب والعز مرتجع
إذا النفوس وقاها الله من عطب
ففهم الحجاج قصدها وأسرَّ الأمر في نفسه وقرر أن يرد كيدها عليها..
. وعندما وصل موكب العروس إلى القصر، بقي الحجاج في الإسطبل وتأخر عن حضور الوليمة التي أعدها أمير المؤمنين بمناسبة زواجه، ولما لاحظ الخليفة تغيب الحجاج بعث إليه، فلما وصل امتنع عن الطعام، وقال للخليفة: أنا لا آكل فضلات الرجال.
ضاقت نفس الخليفة من قول الحجاج فلم يقرب هند بعد عقد قرانهما،ولكن هند علمت بحنكتها أن الخليفة لا يقربها بسبب كلام الحجاج فلجأت لدهائها مرة أخرى..
فبعثت في طلب الخليفة مدعية أنها تريد التحدث معه بأمر هام، وما إن وصل حتى تعمدت قطع عقد من اللؤلؤ ثم رفعت ثوبها وراحت تلم حباته في ثنياته، ففُتن الخليفة بجمال هند وسحرها، ثم سمعها تقول وهي تلم حبات اللؤلؤ: سبحان الله. هذا اللؤلؤ خلقه الله لزينة الملوك ولكن شاءت حكمته ألا يستطيع ثقبه إلا الغجر.
فقال الخليفة متهللًا: نعم والله صدقت، قبّح الله من لامني فيك. وتم زواجهما وانتصرت هند بدهائها وفطنتها.
من كتاب إعلام الناس بما وقع للبرامكة/ بتصرف من مجلة الوعي السوري